يومية سياسية مستقلة
بيروت / °31

الحدود اللبنانية السورية: تنظيف مخلفات نظام التهريب

Wednesday, February 12, 2025 8:31:03 AM

تشهد المناطق الحدّوديّة بين لبنان وسوريا تطوّرات بالغة الحسّاسيّة، في ظِلّ ما يُوصف بمحاولة إعادة رسم لموازين القوى الإقليميّة والدوليّة. تتلاقى إرادة دوليّة مع مصالح إقليميّة لترتيب واقعٍ جديدٍ على الأرض، تنعكس أبرز تجلّياته على خطوط التماسّ الحدودية بين البلدين، حيث شهدت الأيّام الأخيرة اشتباكاتٍ عنيفة ومناوشات متكرِّرة، أسهمت في تأجيج الخلافات القديمة حول مشكلات التهريب والسّيطرة الأمنيّة. وتتركّز هذه التحوّلات في منطقة البقاع الشماليّ، الّتي تُعَدّ تاريخيًّا أكثر ارتباطًا بسوريا من ارتباطها بباقي المناطق اللّبنانيّة، وصولًا إلى ما يشبه مسعى لتكريس حدودٍ سياسيّة جديدة، تجعل حزب اللّه فعليًّا بين نهرَي الليطاني والعاصي في المعادلة الداخليّة، بحسب توصيف بعض المتابعين.

تراكمت التوتّرات الميدانيّة خلال الأيّام الماضية على امتداد الشريط الحدّوديّ الذي لم يُرسَم رسميًّا بين البلدين. إذ اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوّات تابعة للإدارة السوريّة الجديدة وبعض العشائر اللبنانيّة المقيمة في الهرمل ومحيطها، فضلًا عن مجموعات مرتبطة بحزب اللّه. وظهرت معالم صراع ميدانيّ لتثبيت سيطرة الدولة السوريّة على المناطق الحدّوديّة من جهتها، بينما بدا الوضع في الداخل اللبنانيّ محفوفًا بالقلق من توسّع هذه الاشتباكات، خصوصًا أنّ الكثير من القرى المتاخمة للحدود تضمّ لبنانيّين يعيشون رسميًّا ضمن الأراضي السوريّة منذ عقود طويلة، ويتنقّلون بحرّية تامّة بين الجانبين.

روابط تاريخيّة
التداخل السكّاني بين بعلبك–الهرمل والأراضي السّوريّة ليس وليد السنوات الأخيرة، بل يمتدّ إلى حقبة ما قبل ولادة الدولتين، حين كانت أسواق حمص ودمشق والقلمون تشكّل بوّابة اقتصاديّة واجتماعيّة أقرب إلى سكّان البقاع الشمالي من بيروت. استمرّ الارتباط الثقافيّ والعائليّ والتجاريّ حتّى ما بعد استقلال لبنان عام 1943، ثمّ تجذّر أكثر إبّان الوصاية السوريّة على لبنان. ورغم انسحاب الجيش السوري عام 2005، لم تنكسر العلاقة الشعبيّة على مستوى العشائر والعائلات، وإن مال المزاج الانتخابيّ صوب حزب اللّه.

لكنّ اندلاع الثورة في سوريا في العام 2011، وانزلاق الأحداث إلى مواجهات مسلّحة، أوجد شرخًا واضحًا في هذه الروابط، بعدما اعتبر البعض في البقاع الشماليّ أنّ الثورة السوريّة تمثّل تهديدًا للطائفة الشيعيّة في سوريا ولبنان. وازداد الشرخ عمقًا مع تضخّم ملف اللاجئين السوريّين وانتشار بروباغندا التضليل من مختلف الجهات.

من الناحية الاجتماعيّة، أثّر تباين النظرة إلى الحرب السوريّة على النسيج المشترك بين العشائر في البقاع الشماليّ والسكّان من السّوريّين. ولم تعد العلاقة قائمة على المصالح المشتركة والتنقّل الحرّ فحسب، بل بدأت تنحو باتجاه العداء والتوجّس، وصار كلّ طرف يتوجّس من الآخر. ومع تصاعد دور حزب اللّه عسكريًّا في الداخل السّوريّ، تبدّل ميزان القوى الميدانيّ من خلال إحكام قبضته على بعض المعابر الحدّوديّة واحتكار عمليّات التهريب، لتصبح البقاع قِبلةً لأنشطة تهريب تتضمّن السلاح والمخدّرات والسّلع المختلفة، بعلم الأطراف المستفيدة من الوضع الأمنيّ الهشّ وانكفاء أجهزة الدولة عن الضبط الجدّي.

تحرّك رسميّ
تدخّل الجيش اللّبنانيّ في الأيّام الماضية عقب استهداف مناطق لبنانيّة بقذائف من الجانب السّوريّ. زُجَّت تعزيزات كبيرة إلى بعض النقاط القريبة من القاع، فيما صدرت أوامر واضحة للوحدات العسكريّة بالردّ الفوريّ على أيّ مصدر للنيران يأتي من الحدود السوريّة. حصل تنسيق مبدئيّ بين الرئيس اللبناني جوزيف عون ونظيره السوري أحمد الشرع، أفضى إلى محاولة ضبط الإشكالات الميدانيّة عبر التهدئة ومراعاة الجانب الإنسانيّ لسكّان الحدود، لكنّ الاشتباكات توسّعت بعد حوادث خطفٍ متبادلة بين مجموعات مسلّحة من العشائر وقوّات الأمن السّوريّ، ما أجبر الجيش اللّبنانيّ على اتّخاذ إجراءات دفاعيّة صارمة لاحتواء الموقف.

والحال، أن الحكومة اللبنانيّة لا ترغب، وفق أوساطها الرسميّة، بالتورّط في نزاع مفتوح مع دمشق، وتسعى للإبقاء على ما تبقّى من قنوات الثقّة من أجل ترسيم فعليّ للحدود وإنهاء حالة التسيّب الّتي يستغلّها المهرّبون وتجّار الأسلحة. لكنّ هذا الخيار يفرض ضرورة الإمساك بزمام الأمور أمنيًّا على الأراضي اللبنانيّة أولًا، وهو ما لم يتحقّق تاريخيًّا منذ الاستقلال، لأسباب تتعلّق بعجز الدولة المزمن في تلك المناطق وتداخل النفوذ العشائري والأهلي مع مصالح جهات نافذة، فضلًا عن استفادة النظام الأسديّ المخلوع من هذا التسيّب وتسيير أمور اقتصاد التهريب الملتويّ الذي كان مفتوحًا على مصراعيه.

في المقابل، تشي خطوات الإدارة السوريّة الجديدة برغبة في توجيه رسائل حازمة للجهات الإقليميّة والدوليّة حول قدرتها على ضبط حدودها، وكأنّها تحاول إثبات أنّها ما زالت دولة قائمة وقادرة على التحكّم بمداخلها الغربيّة، وسط تساؤلات داخليّة حول مدى امتلاكها القدرات الفعليّة لاستعادة كلّ مفاصل السلطة، وإلى أيّ حدّ تتعارض هذه الرغبة مع مصالح إيران وحزب اللّه، اللذين تواجدا عسكريًّا في سوريا طوال سنوات الحرب.

جهات دوليّة عدّة لا تبدو مستفيدة مباشرة من تصعيد قد يتفاقم على نحو يهدّد الاستقرار الهشّ في المنطقة، بينما يُحتمل أن تكون جهات محسوبة على النظام السوري السابق أو إيران مستعدّة لاستثمار هذه التوتّرات. لا يزال حزب اللّه يبرّر احتفاظه بسلاحه بمواجهة التهديدات، مستفيدًا من أيّ توتّر لاستعراض قوّته ودوره في حماية مناطق نفوذه على جانبي الحدود. وترتبط الأسئلة الكبرى بقدرة الحكومة اللبنانيّة الجديدة على قلب المعادلة وضبط الحدود، عبر إجراءات دبلوماسيّة وأمنيّة واضحة المعالم. ولا يظهر أيّ مسار جدّي حتّى اللحظة لترسيم الحدود على الأرض وتنظيم إقامة اللبنانيّين القاطنين في أراضٍ سوريّة تاريخيًّا، إضافة إلى منع تدفّق السلاح والمخدّرات مع تفعيل حقيقي للتنسيق الأمني.

روايات متباينة
الجهة السوريّة المعنيّة بالضبط الحدّودي، ممثَّلة بإدارة أمن الحدود في سوريا، تصرّ على أنّ عمليّاتها الأخيرة لم تستهدف لبنان، بل إنّها تواجه عصابات تهريب السلاح والمخدّرات التابعة لـ”النظام المخلوع” و”حزب اللّه”. ونقلًا عن المقدّم مؤيّد السلامة، قائد المنطقة الغربيّة في إدارة أمن الحدود، جرى إطلاق حملة تمشيط واسعة لضبط القرى المحاذية للحدود اللبنانيّة، وتحديدًا في حاويك وجرماش ووادي الحوراني وأكوم، حيث تنتشر عصابات التهريب. وفقًا لروايته، باتت تلك العصابات تشكّل تهديدًا لأمن المنطقة، بعد رعايتها تجارة المخدّرات والأسلحة، بالتنسيق مع حزب اللّه. وانتهت الحملة بضبط مزارع ومستودعات ومعامل لتصنيع وتعبئة الحشيش والكبتاغون، فضلًا عن مطابع للعملة المزوّرة، وهي نشاطات اعتُبرت شريانًا اقتصاديًّا لهذه العصابات. وتحدّث السلامة عن تعرّض الوحدات السوريّة لقصف من جانب حزب اللّه، نافيًا أن تكون بلاده قد استهدفت الداخل اللبناني، ومشيرًا إلى أنّ العمليّات ركّزت على تفكيك الشبكات المسلّحة وتشديد الطوق على المعابر غير النظاميّة.

في المقابل، مصادر عسكريّة لبنانيّة رفيعة المستوى تحدّثت إلى “المدن” عن أبعاد تتجاوز قضايا التهريب، إذ جرى الحديث عن ضبط أشخاص كانوا يحاولون تهريب (لم يتمّ تحديد ما نوعية البضائع المهرّبة) إلى هيئة تحرير الشام عبر التسلّل من لبنان إلى سوريا. وأكدّت المصادر أنّه ” لم يحدث اشتباك مباشر بين الجيش الّلبنانيّ وهيئة تحرير الشام. ما حصل هو سقوط بعض القذائف على مناطق لبنانية، فردّ الجيش باستهداف مصادر النيران في الجانب السوري. أصبنا ثلاثة مواقع بدقة، وهذا إجراء طبيعي عندما تُستهدَف الأراضي اللبنانية بأي شكل من الأشكال. وكان هناك أسيران أُطلق سراحهما قبل أيام بوساطة واتصالات معيّنة. نراقب الوضع ميدانيًّا ونساعد في أي خطوات تُسهم في معالجة الملف الإنساني للمدنيين أو المحتجزين، لكنّ دورنا يظلّ محصورًا في حدود ما يسمح به القانون والصلاحيّات الموكلة إلينا. بعض اللبنانيين يقطنون في قرى تقع ضمن الأراضي السورية ويحملون إقامة سورية. مع تصاعد الأحداث، غادر بعضهم بالفعل تلك المناطق. نحن، كجيش لبناني، لا نتدخّل في شؤون أراضٍ تقع خارج الحدود اللبنانية؛ فهذا يتطلب تنسيقًا على المستوى الرسمي بين الدولتَين إذا لزم الأمر. لم نتلقَّ أي إشعار رسميّ مسبق حول عملية عسكرية على الجانب السوري، ولم يُجرَ أي تنسيق معنا في هذا الصدّد”.

شبكات التهريب
ولدى سؤاله عن ضبطٍ لمعامل وعن طبيعة عمل شبكات التهريب، أشار المصدر: “لم نضبط أي معامل كبتاغون في المناطق التي نُشرف عليها داخل لبنان مؤخرًا. صحيح أنّنا أوقفنا في السابق بعض المهرّبين، لكنّ العديد منهم هربوا إلى الأراضي السورية. بالنسبة إلى ما يُشاع عن معامل على الجانب السوري، فهذا أمر يعود للسلطات هناك. أمّا ارتباط الحملة العسكرية بملف الكبتاغون تحديدًا، فلا نملك معلومات مؤكّدة حوله، لكن من الواضح أنّ ملف التهريب عمومًا يشكل هاجسًا أمنيًّا للجانبين. واستحدثنا مراكز إضافية لضبط الحدود بصورة أفضل. بطبيعة الحال، هذه المهمّة تتطلّب مزيدًا من العتاد والعناصر، نظرًا لاتّساع الحدود وتشعّب التضاريس. نقوم بما تمليه علينا واجباتنا ضمن الإمكانيات المتوفّرة، وهناك حاجة دائمة لدعم إضافي لتعزيز السيطرة وتحسين فعالية الإجراءات”.

وتزامنت هذه المستجدّات مع أنباء عن تجفيف موارد تمويل دوليّة وتحديدًا أميركيّة (وقف المشاريع الخارجيّة الممولة أميركيًّا)، ليؤكد المصدر “لم نتلقَّ أي بلاغ رسميّ بهذا الخصوص، والبرنامج الأميركيّ لدعم الجيش اللبناني ما زال قائمًا، بل ثمة مؤشرات على زيادته في الفترة المقبلة. لدينا برامج تمويل وتجهيز مختلفة، وهي مستمرّة. وباعتبار أنّ هناك مهامّ متعدّدة تقع على عاتقنا، نأمل في استمرار الدعم وتعزيزه”.

في جانب آخر، تتضارب الروايات اللبنانيّة والسوريّة حول ما يجري. عشائر الهرمل تتّهم القوّات السوريّة بالتعدّي على المواطنين وطردهم من قراهم التي يقطنون فيها منذ عقود، وحرمانهم من أرزاقهم. هذه العشائر تملك وثائق ملكيّة وإقامات نظاميّة، لكنّ دمشق ترى أنّ وجود هؤلاء في مناطقها كان مرتبطًا بظروف الحرب الأهليّة السوريّة بعد عام 2011، حين غادر سوريّون سنّة بلداتهم في ريف القصير إلى مخيّمات عرسال ومناطق لبنانيّة أخرى، ليحلّ محلّهم لبنانيّون شيعة مدعومون من عشائر كآل زعيتر وعلوه وناصر الدين ودندش وجعفر، انتقلوا للعيش هناك مع وصول حزب اللّه عسكريًّا للدفاع عن النظام السوري.

منذ ذلك الوقت، ترسّخ نفوذ الحزب في القصير ومحيطها، واستفاد النظام السوري من الوجود الشيعي لتعزيز مواقعه أمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. وتفيد معلومات أنّ الإدارة السوريّة الجديدة قرّرت تحريك الجبهة الحدوديّة تحت عنوان “تنظيفها” من المهرّبين وعصابات تهريب السلاح والمخدّرات، تزامنًا مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى السعوديّة، حيث شكّل تهريب الكبتاغون من هذه المناطق إلى الخليج معضلة أمنيّة واقتصاديّة شديدة التعقيد.

تدفع هذه الإجراءات عائلات شيعيّة كانت قد استوطنت في قرى وبلدات سوريّة إلى مغادرتها والعودة إلى الداخل اللبناني، فيما تمّت اعتقالات طاولت سوريّين سنّة ينتمون إلى الفرقة الرابعة الموالية للنظام السابق، ولبنانيّين اتُّهموا بالتورّط في أنشطة التهريب. تبدو المساحة الممتدّة في حوض العاصي، وتحديدًا في ريف القصير، ساحة أساسيّة لمعارك النفوذ بين الإدارة السوريّة الجديدة وحزب اللّه، وسط محاولات لإعادة صياغة الوضع الديموغرافيّ والأمنيّ.

هل يُحسم الملف؟
إلى الآن، يكتفي الجيش اللبناني بضبط جانبه من الحدود تبعًا لإمكاناته المحدودة. ومع كلّ تصعيد، يقصف مصادر النيران ويدمّر نقاط التهريب، لكن تبقى الأسئلة قائمة حول قدرته على بسط سيطرة شاملة إن لم تدعمه السلطة السياسيّة بقرارات حاسمة وترتيبات واضحة مع الجانب السوري. تحت هذه الظروف، يغدو مستقبل العلاقات اللبنانيّة–السوريّة مرتبطًا بتوازنات معقّدة، تتداخل فيها اعتبارات دوليّة وإقليميّة.

لا أحد يملك إجابة واضحة عمّا إذا كانت هذه الإجراءات ستحسم ملف المهرّبين والمسلّحين على نحو جذريّ أم ستؤدّي إلى صراع موارب قد يتوسّع لاحقًا. وبينما تسعى بعض القوى الإقليميّة والدوليّة إلى تهدئة الأوضاع والتركيز على الحدّ من انتشار المخدّرات والسلاح، قد يستفيد لاعبون آخرون من إطالة أمد التوتّر. وفي ظلّ احتدام الاشتباكات، يبقى هاجس الانزلاق إلى مواجهة أشمل هاجسًا قائمًا، خصوصًا إذا تداخلت التحرّكات العسكريّة بأيّ ترتيبات إقليميّة أكبر تتعلّق بمفاوضات القوى العالميّة حول ملفات المنطقة. هكذا، يستمرّ المشهد ضبابيًّا، ويبقى مصير هذه الرقعة الجغرافيّة رهن الصفقات والتسويات والتفاهمات الّتي قد تعيد رسم الخريطة الجيوسياسيّة في تلك البقعة الحسّاسة من الحدود.
المدن

يلفت موقع "اللبنانية" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر الّا عن وجهة نظر كاتبه او مصدره.

 

مقالات مشابهة

عون يلتقي الحريري وسلام والسنيورة ودياب.. ميقاتي من بعبدا: ندعم الحكومة بشكل كامل

أعمال تفجير وجرف جنوبا... ولبنان يرفض طلب تمديد مهلة وقف اطلاق النار

في عهدة البيان الوزاري...المالي

المؤتمر الأول في جامعة الحكمة حول التحكم والأتمتة.. بوشيكيان ينوه .. ونعمة: ملتزمون التميز والبحث العلمي

وزير الإعلام تفقد استوديو إذاعة لبنان الناطقة باللغة الفرنسية

رؤساء حكومات سابقون في بعبدا...الحريري: اسمعوني الجمعة

هذه قصة السيارتين “الفاخرتين” اللتين اشتراهما مصرف لبنان

حبيب يشكر المسؤولين على إعادة فتح شارع المصارف