يومية سياسية مستقلة
بيروت / °31

بين النقل العام والخاص والسلوكيات الرائجة.. الفدرلة واقعة

Wednesday, February 12, 2025 8:27:11 AM

“ما بيشبهونا” عبارة تتكرر على المسامع في لبنان، لتعبّر عن نزعة لـ”الفدرلة” ينقسم حولها اللبنانيون. إلا أنه بعيداً من البعد السياسي للكلمة، ثمة “فدرلة” تبسط نفسها كأمر واقع نتيجة لاختلافات كثيرة بأبعاد اجتماعية أيضاً. ومن أبرز هذه الاختلافات ما يتجلّى حول خلفياتنا في اختيار وسائط الانتقال وسلوكياتنا في القيادة. تصطبغ بعض مناطقنا بهذه السلوكيات ووسائلها، لتتحول “هوية” خاصة بها، خصوصاً عندما تستخدم كأدوات في حروب سياسية، أو تحاط مخالفاتها برعاية الأحزاب وحمايتها. وهذا ما يؤدي إلى ولادة “كانتونات” متفلتة من المفاهيم المشتركة حول حقوق المواطن وواجباته على الطرقات، خصوصاً بغياب دور الدولة كناظم أساسي لمجمل قطاع التنقلات.

تتنوع وسائط الانتقال على الأراضي اللبنانية، والغائب الأكبر بينها هو النقل العام المنظم والمبني على خطة مستدامة. فعلى الرغم من كل البروباغندا التي رافقت إعادة اطلاق “جحش الدولة” أخيراً، فكل ما وضع في خدمة بيروت وضواحيها حتى الآن تسعون باصاً فقط. بينما يبلغ عدد السيارات السياحية التي تحمل لوحات عمومية شرعية وفقاً لرئيس اتحادات ونقابات قطاع النّقل البرّي في لبنان بسام طليس 35 ألفاً يضاف إليها 4250 فاناً و2600 باص كبير. وتتعدى وسائل النقل المشترك ما ذكر، إلى لوحات عمومية مزورة أو مكررة، أو لوحات خاصة، يقدر طليس حجمها بنصف حجم الوسائل الشرعية.

هذا في وقت فرض استفحال الأزمة المعيشية، تفشي وسائل النقل الخطرة، ومن بينها الدراجات النارية والتوك توك، لتستخدم الأخيرة حتى في النقل المشترك.

تنميط مرتبط بسلوكيات استخدام الوسائل

يتحدث خبراء اجتماعيون، عن تداخل العوامل النفسية مع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، باختيار وسائط الانتقال المتاحة. ويعتبرون أن المسألة مركّبة، إلى حدّ اتخاذها حتى رمزية سياسية في بعض الأماكن.

بحسب استشارية علم النفس العلاجي ريما بجاني “عندما نتطرق إلى وسائل الانتقال نتحدث عن مجتمع وبيئة لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. لا شك أن اختيار وسيلة النقل مرتبط في الأساس بأمور مادية وأيضاً بجغرافية الأماكن وواقعها السوسيولوجي”. إلا أن بجاني ترى أيضاً “أن نظرتنا إلى وسائل النقل والانتقال تختلف باختلاف نظرتنا إلى ذاتنا”، وهذا ما يجعل “الطابع الفكري أساسياً في اختيارنا لهذه الوسائل”.

تحوّل اختيار بعض الوسائل في مجتمعات لبنانية أيضاً، سلوكاً جماعياً يعزز نظرة الآخر إليه، وصولاً إلى ربط هويتها بوسيلة النقل الأكثر شيوعاً فيها. وهكذا تنمط الضاحية مثلاً باستخدام “الموتوسيكل” وترتبط هوية بعلبك بالفان، وطرابلس وقرى البقاع الأوسط والغربي بالتوك توك. بينما ترمّز مجتمعات المتن وجبل لبنان وغيرها برفض السلوك التشاركي في تنقلها على الطرقات، وتمسّكها برفاهيتها في استخدام الوسائل الخاصة، على الرغم من الهوة التي ولدتها الحالة المعيشية بين دخل المواطن وكلفة التنقلات التي باتت مرتفعة جداً.

وفقا لبجاني “نحن نرمّز الأمور من نظرة اجتماعية لها علاقة بكيفية استخدام الوسيلة وليس الوسيلة بحد ذاتها”. وهذا ما يجعل الحذر مطلوباً في مقاربة بعض السلوكيات في مجتمعنا، خصوصاً أننا كما يقول أحد المتخصصين “نعيش في بلد كل الظواهر فيه واضحة لكن لا شيء واضح”.

“الموتوسيكل” ببصمة سياسية

من الواضح أن سبب اختيار أبناء بيروت والضاحية الدراجات النارية بشكل كبير، يرتبط بما تتيحه من تنقل سهل ورخيص وسط الزحمة، ولسهولة في ركنها بغياب المواقف.

ولكن ارتباط استخدام “الموتوسيكل” بوظيفة سياسية في منطقة الضاحية، جعل لهذه الوسيلة بصمة أو stigma في أذهان الناس. وهذا ما تعتبر بجاني أنه يمكن دراسته في المجتمع اللبناني بشكل استثنائي إنطلاقاً من خلفيات “سوسيو سياسية”.

“توك توك” للفقراء وأيضاً للأكابر

وسيلة التوك توك التي دخلت مجتمعاتنا بالتزامن مع الأزمة المعيشية تحاط أيضاً بسلوكيات تحددها أنماط الحياة. في القانون وفقاً لطليس “ليس هناك وسيلة نقل اسمها “توك توك” إنما هي دراجة نارية بثلاثة إطارات، تسجل كذلك في النافعة، مما ينفي عنها صفة وسيلة النقل المشترك”.

إلا أن استخدام التوك توك في النقل المشترك شائع في المدن والبلدات النائية سواء في وسط البقاع وغربه، أو في طرابلس وعكار، مع تواجده أيضا خارج هذه المساحات الجغرافية.

تفرض التركيبة الاجتماعية لهذه المناطق، الحاجة لوسائط أقل كلفة تؤمن تنقلات التلاميذ إلى المدارس، أو انتقال العائلات، مع حاجياتهم وبكلفة أقل من تلك التي يؤمنها “الفان” أو السيرفيس. وعليه تقول بجاني “في الوعي” تتعلق خلفيات اختيار التوك توك بجغرافية المناطق، وبالوظائف المطلوبة منه”.

ومع أنه لا هوية جامعة لمستخدمي التوك توك، فهو يرتبط في “لاوعي” الناس بهوية البيئة التي يكثر تواجده فيها، وهذا ما يجعل ربما بعض مستخدمي التوك توك ينزعون إلى إعلان اختلافهم عبر شعارات أو عبارات يزيلونه بها، وغالباً ما تؤشر إلى الهوية الطائفية أو الوطنية لسائقيها، خصوصاً أن بين مقتني التوك توك عدد كبير من السوريين أيضاً.

في المقابل فإن عدم بلوغ “التوك توك” مرحلة فرض هويته على منطقة معينة، لا يعني أنه لا يصطبغ بهوية المنطقة التي ينتشر فيها. فالتوك توك في طرابلس مثلاً هو غيره في البترون، حيث في شكله يرتبط بالرفاهية التي تحاول المدينة توفيرها للسائح.

ما يحول دون تشكيل أصحاب “التوك توك” مجتمعاً يطغى بهويته على المناطق التي ينتشر فيها بكثافة في المقابل، هو أن العامل الوحيد الذي قد يجعل أصحاب “التوك توك” يتكتلون في مجتمع community متضامن حتى الآن، هو الاضطهاد الذي يتعرض له من يشغلونه، من قبل سائر مستخدمي وسائط النقل المشترك.

الـ part للسوريين ولا جدل في ذلك

النزوح السوري بمثابة عامل إضافي لهذا التنوع الذي يفرزنا وفقاً لوسائط انتقالنا ليزيد الفوضى على طرقاتنا. هوية “المواطن السوري على طرقات لبنان تقرأ مباشرة من خلال دراجة part النارية. أحضر النازحون هذه الوسيلة معهم، وغالباً ما يقودونها على الطرقات من دون رخص قانونية، ومع أنها ليست الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها هؤلاء، فإن إعطاء هوية لهذه الدراجة يقترن بسلوكيات سائقها الاجتماعية أيضاً”.

سمة التشبه في المجتمعات لإبراز الهوية، تنسحب أيضاً على المجتمعات التي تميل إلى الرفاهية باختيارها وسائل النقل، بحيث تقترن الوسائل “الألمانية” المستخدمة بالصورة أو الـ image التي يرغب الفرد بالظهور فيها. ما يعطي هؤلاء هوية أو identity مختلفة عن مناطق أخرى.

غياب المساواة في الانتقال بين المحافظات

غير أن فكفكة نظم الانتقال في ظلّ غياب النقل المشترك، تبرز أيضاً عدم مساواة اللبنانيين حتى في وسائط انتقالهم بين مراكز المحافظات ومدنها.

فبين صيدا وبيروت هناك تجربة نقل مشترك خاص تؤمن المساواة في الانتقال إلى العاصمة ومنها. لكن هذه التجربة غائبة عن صور التي تواجه عشوائية التنقل، على رغم كون أبناء المدينتين المتلاصقتين متساوين في الحاجة لمتابعة أعمالهم أو دراستهم في العاصمة.

بين البقاع وبيروت “الفان” هو الملك، مع ما يرافق ذلك من مخاطر القيادة المتهورة على الطرقات، ووقوف متكرر وعدم القدرة على بلوغ الأهداف بالأوقات المناسبة.

بين طرابلس وبيروت، تحدد الخيارات وفقا للإمكانيات. وتتنوع بين باصات وسيارات عمومية، وبين تجربة خاصة رائدة، تعتمد جداول منظمة للانتقال والوصول، مع محطات توقف ثابتة، قيادة آمنة ونظافة وتدفئة وتبريد. إلا أن الكلفة لا تتناسب طبعاً مع قدرة جزء كبير من أبناء المنطقة، الذين يختارون الأرخص ويتنازلون عن متعة التجربة.

القاسم المشترك بين البدائل المطروحة، أنها مبادرات فردية، لا تندرج في خطة منظمة لتأمين المساواة بين الناس من خلال النقل العام المشترك والمنظم.

الطبقية تتجلّى على طرقاتنا أيضاً

هذه الإشكالية تكبر بحسب الدكتورة أديبة حمدان الأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانية – كلية العلوم الاجتماعية، في ظل الرواتب التي انهارت قيمتها. وعليه تعتبر حمدان “أن الخلفيات الاجتماعية للمواطنين تتدخل بشكل كبير في اختيارهم لوسائل الانتقال، بالإضافة إلى الاختلافات في الجيل، وفي المستوى الثقافي والاقتصادي”.

ترى حمدان “أنه كوننا في لبنان نفتقد وسائل نقل عام مشترك ومنظم، هناك حرية أكبر للفرد. ولكن هذه الحرية ليست ديمقراطية بل هي دليل أنه ليس لدينا حل ثان”.

في المقابل ترى حمدان “أن الطبقة التي تلجأ إلى التاكسي أو السيرفيس هي غيرها التي تستخدم النقل المشترك. لا يحبذ الكثيرون وسائل النقل المشترك المتاحة. والسبب يتعلق بالنظرة الاجتماعية إلى هذه الوسائل التي يعتبر الناس أنها تستخدم من الطبقة الأكثر تهميشاً، فيصبح استخدامها من قبل من لم يعتادوا على الانتقال فيها خدشاً للصورة الاجتماعية التي يرغب الفرد في الظهور بها”.

تقول حمدان “ثقافة المجتمع في النقل المشترك ضعيفة، نحن أولاً غير معتادين، ثانياً لم تخلق معنا، وثالثاً بتنا مضطرين لاستخدامها تحت وطأة أزمة مالية حادة. ومن هنا ترى حاجة إلى تغيير أنماط سلوكياتنا كمجتمع استهلاكي، مع تأكيدها على ما يتطلبه ذلك من دور أكبر للدولة التي ما زالت غائبة عن التنظيم، في ظل تكاثر المبادرات الفردية التي تفرز مجتمعاتنا إلى كانتونات، بناء على وسائل الانتقال المستخدمة”.

هوية من نوع آخر يقدمها هواة “ركوب الدراجات النارية” على طرقاتنا، من خلال مواكب يجولون بها في مختلف المناطق، تجمع من يتشاركون الهواية والمزاج والاهتمامات. لا شك أن هؤلاء يقصدون إبراز روابطهم الجماعية، ما يمنحهم هوية ترتبط بهوايتهم، بدلاً من ارتباطها بالدين والدم، وهذا وفقاً لحمدان “يستحق الاحترام”.

منظومة أمر واقع أقوى من الدولة وقوانينها

غير أن خطورة الأمر وفقاً لكامل إبراهيم مدير الأكاديمية اللبنانية للسلامة المرورية هي “في كون الفوضى على طرقاتنا تصعّب إمكانية التغيير والعودة إلى الانتظام، خصوصاً أن هناك نافذين “أقوى من الدولة” يستفيدون من هذه الفوضى، بينما التنظيم يقطع أرزاق مجموعات من الناس، ليصبح القانون ومحاولة فرضه عدواً لهم في ظل واقع اجتماعي ومعيشي سيئ”.

“لم يكن تنقل اللبنانيين وتنظيمه يوماً من أولويات الدولة في التعامل مع الاحتياجات بطريقة علمية مستدامة، وفقاً لابراهيم، فتسبب غيابها وعجزها عن إخضاع كل الوسائل للقوانين، بزيادة منسوب الفوضى، التي كلما أهملت معالجتها صارت مشرعة بشكل غير مباشر”.

المطلوب بحسب إبراهيم سياسات حكومية وخطة واضحة للنقل تحددها الحاجات. “يجب أن تكون كل الخيارات متاحة للناس، ومن بينها النقل العام الذي يجب أن يترافق مع التوعية وتثقيف المجتمعات، ومع تطوير دائم للخطط، بما يسمح لخطة النقل العام بأن تكبر ككرة الثلج. أما الحلول بالقطعة فلا تكفي، ولا القمع الذي يجعل الصالح يدفع الثمن عن الزعران”.

فهل نشهد ولادة انتظام وسائل النقل العام على طرقاتنا مع عودة الانتظام إلى الحياة السياسية العامة؟

نقل زحلة “بغير دني”

دخلت زحلة منذ شهر حزيران الماضي في تجربة نقل بلدي مشترك داخلي، صديق للبيئة ولأصحاب الحاجات الخاصة. وبعد توقف قسري إثر توسع العدوان الإسرائيلي على لبنان، عادت باصاتها الأربعة المقدمة هبة من الاتحاد الأوروبي شغالة على ثلاثة خطوط.

غير أن التجربة الرائدة في المدينة، دونها عقبات حالت دون تقدمها بالشكل اللازم حتى الآن. وأبرزها أن الناس غير معتادين على نظام توقف الباصات في محطات محددة، بالإضافة إلى عدم القدرة حتى الآن على فرض نظام واحد يخضع وسائل الانتقال الخاصة، خدمة للهدف الموضوع من خلال المشروع وهو رفع تلوث عوادم السيارات عن المدينة.

مع ذلك يصر رئيس بلدية زحلة أسعد زغيب على العمل لإنجاح التجربة، معتبراً “أن الموضوع يرتبط بتغير الذهنيات الذي يحتاج إلى بعض الوقت. وقد أخذت البلدية على عاتقها الانطلاق بهذه الورشة، حتى لو تكبدت زحلة نفقات نقل ركاب الباصات مجاناً، كما هي الحال منذ ما قبل عيد الميلاد”.
نداء الوطن

يلفت موقع "اللبنانية" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر الّا عن وجهة نظر كاتبه او مصدره.

 

مقالات مشابهة

ما حقيقة الاتفاق مع إسرائيل على تمديد وقف النار لما بعد عيد الفطر؟!

عون يلتقي الحريري وسلام والسنيورة ودياب.. ميقاتي من بعبدا: ندعم الحكومة بشكل كامل

أعمال تفجير وجرف جنوبا... ولبنان يرفض طلب تمديد مهلة وقف اطلاق النار

في عهدة البيان الوزاري...المالي

المؤتمر الأول في جامعة الحكمة حول التحكم والأتمتة.. بوشيكيان ينوه .. ونعمة: ملتزمون التميز والبحث العلمي

وزير الإعلام تفقد استوديو إذاعة لبنان الناطقة باللغة الفرنسية

رؤساء حكومات سابقون في بعبدا...الحريري: اسمعوني الجمعة

هذه قصة السيارتين “الفاخرتين” اللتين اشتراهما مصرف لبنان