يومية سياسية مستقلة
بيروت / °19

جورج كلاس: النأي بالنفس إعلام التنكُّر و الإنكار

Thursday, February 8, 2024 8:19:46 AM

بقلم وزير الشباب والرياضة جورج كلّاس - النهار

هل النأي عن اتخاذ موقف واضح من قضية مصيرية ، يرقى الى خطيئة الهروب و فنّ الإختباء ، او انه من استراتيجيات التعبير المضمرة ؟
يذخر القاموس السياسي و الإعلامي اللبناني بمصطلحات و تعابير تستخدم بعشوائية و حيل كلامية توظف للإستثمار في حالات الازمات و ازمنة النزاعات ، كمثل مصطلح النأي بالنفس ، لإضفاءِ غشاوات ضبابية مكثفة على واقع الأحوال المعاشة بهدف التبرير و الاختباء وراء شاشات الحدث و عدم إِتخاذ الموقف اللازم من امر حاد ، يستوجب موقفاً صريحا و كلاماً فصلًا تجاه وضع مصيري في دقة زمنية تتصف بالإستثنائية . فهل استخدام مصطلح النأي بالنفس يضعنا أمامَ درس سياسيٍ و تقنيات إعلامية بالمَقْلوب ؟ أم اننا بذلكَ نُدخل مُصْطلحاً جديدا ً، الى إضْمَامَاتِ القاموس ِ اللبناني اليومي ، بكل دلالاته السياسية و المجتمعية و الإعلامية ؟
و الى أي حد يمكن للإعلامي ان يجتهد و يفسر و يحلل و يستولد قاموساً مصطلحياً يعممه في استعمالاته الخبرية و تنظيراته التحليلية ؟

تقولُ قاعدة خلقية شعبية إذا وجدت امك في مشكلة ، عاجِلْ و أُنْصُرْها ، ولا تَسَلْ مَن المَحْقوقِ و لا مَنِ المُحِق و تصرف على ان أُمُّكَ هيَ كُل الحقِّيقة و كُل الحَقّ . يعني ذلك ان على الإعلامي عند مواجهته لأمر وطني دقيق يتطلب موقفا صلبا لا مواربة فيه ، عليه ان يبادر و يتخذ موقفا مما يجري ، حتى ولوْ كان غير واثق من فعالية موقفه . يكفي ان يبادر و يرفع الصوت للحفاظ على دوره و حرية إبداء رأيه في مراكز القرار ، و يحجز لنفسه مكانا منتديات المناقشات و المطارحات و ابداء الرأي و تسجيل المواقف .

في الظروفِ الوطنيِّةِ المَصِيريَّةِ ، من الواجِبِ أنْ نعتبر أَنَّ عملية النأْيَ بالنفس هي نأْيٌ عنِ النـفْسِ . إذاك يسْتقيل الإنسان منْ ذاتِه، أَوْ يخرج من حاضره و ماضيه الى الفراغِ الاكبر ، فيدخل النفق الأعْتَم و الأدمس و الأظلم ، و تضيع الحقيقة حيث لا نور و لا قبس ضَؤ .

فماذا لَوْ تم إستبدال كلمة النأي ، السلبيّة الدلالة ، بعبارةٍ ذات معنى إيجابية ، مثل التصَبُّر و التَبَصُّر ، قبل وجوبية الحَسمِ و إلزاميَّةِ الحَزْم ، فقد يكون هذا المصطلح أكْثَرَ قبولاً و انعمَ وقعاً وأقل حساسية ، و أخف خطرا واكثر إلتزاماً وطنيّاً ،و صراحَةَ إنتماء للماضي و تفاعلاً مع الحاضر و توافقاً مع المستقبل ، و أَبْعَدَ رؤيويّاً مع كل دورات الايام و تبدل الظروف و تقلب الاحوال . هذا التدبير الإحترازي يوفر للإعلامي حرية التمحور مع الواقع و التموضع مع الاحتمالات و ترقب المتغيرات الممكنة الحصول . فضلا عن امكانية التحرر من إرهاصات الوضع الآني الضاغط الذي قد يحيد به عن الموضوعية و جدية التحليل ، و يعزز ظروف اعتماد سلوك التفكير الهادئ الذي هو ميزة أي تحليل مبني على العلمية و الاطلاع و الثقافة البانورامية المستدامة ، اضافة الى الموضوعية الجادة ، التي تتميز بها الحيادية الإيجابية عن مصطلح النأي السلبي بمعناه الابتعادي و الإنكاري .

ان النأيُ عن الوطن ، كلفتُه عالية مهما كانت التبريرات . فكفاناً سلخا لِلَحمِنا الحي ّ ، و كفانا جَرداً لعظامنا الناتئة، و كفانا نَسْلاً لِحلاوةِ الروح.
ان السؤال الأشد إلحاحاً للطرح في زمن الأزمات الداخلية ، كما الحال الوقوفية التي نعيشها و التي كثيرا ما تشيع فيها مواقف النأي بالنفس و الهرب من الهروب و الإختباء من القضايا الساخنة ، تتركز مفاصله حول معرفة الاستراتيجية الواجب ان يعتمدها الإعلامي الحر العامل في مؤسسة إعلامية حرة ، حيال طروحات و مواقف النأي بالنفس التي يتخذها مسؤولون و قياديون في حالات وطنية شديدة الدقة و تطلبا لصراحة الموقف ، و اي هامش حرية يمكن أن يعتمده في خلال وظيفته الإبلاغية و التحليلية ، و ما إذا كان بإمكانه التمايز عن سياسة مؤسسته ، بما يوفر له صياغة مصطلحية خاصة .
فأي منهجية إعلامية يتبع الإعلامي للبقاء في دائرة الموضوعية الواقعية ؟ و كيف له ان يعالج الأمور و يوازن بين المواقف المختلفة و الواقع الضاغط ، إن لم يكن ناقداً إعلامياً يزين الأمور بميزان المعرفة و يوازن بين المعلوم و المجهول و المسكوت عنه بعقلانية و موضوعية و مسؤولية ؟ ان عملية التمييز بين الحقائق او الأخبار المزيفة و الزائفة ، هي من اكثر الفنون الإعلامية تتطلباً للاحتراف المهني و الخبرة و الاطلاع ، و هي من ادق الأمور التي تعترض الإعلامي في عملية إنتاجه الإخباري و مسؤولية الارتقاء من رتبة الإبلاغية إلى مرتبة التفكيك المنهجي و التحليل الارتقابي الواجب أن يكون بعيدا عن التنبؤات القاتلة للموضوعية و الحقيقة. و كيف للإعلامي القيادي كرئيس تحرير و كاتب افتتاحيات رئيسية ، ان لا يوازن بين ايجابيات الفضيلة و سلبيات الرذيلة عند اعتماده سياسة النأي بالنفس في مواجهته للقضايا الخلافية الحادة و المفصلية . فالنأي هو هروب من الواقع و تقاعس عن الواجب ، و اشتراك بالجرم من حيث التغاضي عن مهمة كشف الحقائق و أظهار الفوارق ، تماما كهروب العسكري من ساحة القتال ، فيمسي خارج الخدمة و عادماً للثقة و خفيف المعرفة ، باهت الموقف ، مشبوه الدور . و تقاعس الإعلامي عن اتخاذ القرار الجريئ في الوقت الأنسب يجعل العملية الإعلامية اشبه بمحكمة بلا قضاة ، و ملعب بلا حكام ، و جيش بلا قيادة و مدرسة بلا معلمين ، حيث لا وازع و لا رادع و لا حسيب و لا رقيب ، و الفوضى تسود . و لعل المثل الأكثر انطباقا على وضعية الإعلامي في حالة النأي بالنفس ، التي تعتير سقطة مهنية و فكرية ، هو تخوفه من اتخاذ موقف غير محسوب النتائج ، تماماً كخبير المتفجرات الذي يُخطئ مرة واحدة فقط لا غير ، و هذا ما يدفع به إتباع وضعيات المسايرة و الإختفاء في النص و التهاون بمعايير القيم و اخلاقيات المهنة و متطلبات المرحلة .
فاذا كان النأي بالنفس السياسي له ما يبرره عند منْ يتخذه، فالأمر مغاير بالنسبة للنأي بالنفس الإعلامي ، حيث يضغط اللّّاتناسب على حقيقة المشهد ، و تنكشف مدى قدرة الإعلامي و نيته في تقدير الموقف و دراية الواقع . و على ضوء تقديره للموقف يبني الإعلامي قراره بالمواجهة او التصدي او بالإختباء و الهروب و النأي بقلمه عن تقصي الحقائق و جرأة كشفها . و مهما كانت التبريرات فإن النأي الإعلامي ليس من الإعلام بشيء و لا هو من سلوكات التعبير و ليس هو قاموس الحرية .

يلفت موقع "اللبنانية" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر الّا عن وجهة نظر كاتبه او مصدره.

 

مقالات مشابهة

خاص- هكذا تستهدف إسرائيل قدرات حزب الله

خاص- تغيير الوضع الراهن بين إسرائيل ولبنان: الخيارات الأمريكية

خاص- إيران تستعد للضربة المنتظرة ضد اسرائيل.. تقرير يكشف

خاص- عمليات حزب الله تحولت الى نوعية.. كم عسكري اسرائيلي قتلت؟

خاص- تقارب محتمل بين الإمارات وحزب الله؟

خاص- اقرأوا هذه التفاصيل.. هكذا تستعدّ إسرائيل للحرب مع "الحزب"

خاص- أسلحة أميركية جديدة إلى إسرائيل

خاص- الولايات المتحدة قلقة على لبنان من إسرائيل.. لماذا؟