بقلم النائب البروفسور فريد البستاني


بينما تكاد نقاشات الموازنة تقترب من خواتيمها ، مع الإعتراف المسبق بأنها لم تكن موازنة خطة نهوض ولا موازنة الإصلاح المنشود ، بل موازنة الضرورة لمنع الأسوأ ، يبقى البحث بكيفية إصلاح مؤسساتنا وتفعيل أدائها وجعلها أكثر جدوى على الصعيد الإقتصادي وأكثر رشاقة في الخدمة العامة والأداء الإداري ، مهمة شاقة وملحة ، فالإدارة هي جسد الدولة الذي يتحرك في جوانب الحياة الإقتصادية والمالية والإدارية والخدماتية ، وعبره يتلقى المواطنون صورة دولتهم ، من شرطي السير في الشارع إلى الموظف الحكومي في الدوائرالعقارية أو الأحوال الشخصية إلى مراقب ضريبة الدخل وحماية المستهلك ، وصولا للمعلم في المدرسة وموظف الضمان الإجتماعي والطبيب في المستشفى الحكومي ومراقبي الصيانة في الكهرباء والطرقات ، وتبقى ربما الصورة المشرقة دائما هي تلك التي نلتقاها من جنود وضباط جيشنا ومؤسساتنا الأمنية ، يوفرون لنا أمنا لولاه ما كان ممكنا لنا أن نتحدث عن إقتصاد ولا عن إصلاح .
علينا الإعتراف أن الإدارة اللبنانية تشبه مبان قديمة جرت توسعتها أفقيا وعاموديا لعدة مرات بلا خطط وبلا خرائط ، وجرى تمديد الخدمات للملحقات المضافة فيها دون مخططات ، وأغلب المباني الجديدة لم تلق العناية الخارجية وأغلب المباني القديمة لم تتلق الصيانة الداخلية ، والممرات بين أجزائها أشبه بالمتاهة ، كما الحركة بين أجزائها تفتقد للمرونة والليونة التي يحتاجها أداء الإدارة ، ففي الإدارة الواحدة عدة وظائف بتعريفات مختلفة ومعايير متعددة ، وكلما إقتضت الحاجة أداء وظيفة أو خدمة جديدة أنشأت لها مصلحة مستقلة أو مؤسسة عامة وجرى تلصيقها بهيكل الإدارة ، وكل مصلحة أو مؤسسة تضع نظامها الإداري وهيكليتها الوظيفية وسلالم تراتبيتها ورواتبها وآليات التعاقد الخاصة بها ، حتى باتت بعض الإضافات الوظيفية أشبه بخيم متناثرة عشوائيا خارج الهيكل العام للمبنى الذي صار عشوائيا بدوره ، وكما في المبنى الأصلي في الزيادات المرتبطة بهيكله والخيم المنصوبة في فنائه حشو من الموظفين يضيق به المكان .
معايير التأمينات الصحية والمنح التربوية ليست موحدة ، والرواتب كذلك والترقيات ، ومثلها التراتبية علما أننا منذ سنوات قليلة أقرينا ما أسميناه بسلسلة الرتب والرواتب والتي نكتشف انها ليست إلا عنوانا عريضا لإستحقاقات غلاء المعيشة والوعود السياسية في العلاوات والزيادات ، لأن الحقيقة المرة هي أنه ليس لدينا سلسلة للرتب والرواتب تطبق على كل الفئات الوظيفية في الدولة وتعتمد من خلالها معايير واحدة لبرتبة والراتب كي تسمى سلسلة .
المدخل الرئيسي لمبنى الهيكل العام للإدارة ، اي المصفاة والمعبر الإلزامي للدخول إلى الإدارة والإنتساب إلى هياكلها ، وهو المباراة الوظيفية مهشم ، وسور المبنى يجري القفز من فوقه بالف طريقة وطريقة ، وآخرها ما لا نزال بصدده حتى اليوم من تعيينات عشوائية تمت قبل عام بصروة مخالفة للقانون .
أجهزة أمان الطاقة ومنظماتها التي تزود المبنى بمعايير نظامية للماء والكهرباء والوقود ، وهو المال والإنفاق في عالم الإدارة ، يمر هو الآخر بطرق متعددة ، بعضه مراقب ومنظم عبر ديوان المحاسبة بصفته الممر الألزامي لعبور الطاقة إلى جسد الإدارة ، وبعضه مراقب صوريا ومتسيب عمليا ، وبعضه لا يمر بمنظمات ولا بمحولات ، بل اشبه بالتعليق على الشبكة الكهربائية في عشوائيات مناطق المهاجرين والنازحين ، ولا يسدد بدل عنه ، أي لا محاسبة عليه ، وبدلا من أن يجري العمل لإخضاعه للرقابة والمحاسبة يتباهى بعض المسؤولين بأن ذلك ضرورة عملية .
بدون إدارة رشيقة ومتناغمة وكفؤة وشابة ومحترفة وعصرية لا قيام لدولة ، وهذه الصفات تخسرها إدارتنا تدريجيا ، ويصيبها الذبول ، وما نحتاجه هو ثورة في واقع الإدارة تعيد إليها الروح كمؤسسات للخدمة العامة قبل كل شيئ ، ثورة علمية مهنية مخططة وعصرية تبدأ من خلوة يعقدها المسؤولون في الحكومة والمؤسسات الرقابية تضع خطوط الأولويات التي يجب أن يبنى على أساسها مخطط توجيهي جديد لهيكل الإدارة الذي تم وضعه مطلع الستينات وقد شاخ ، ويجري تقويم واقع المؤسسات القائمة وهياكلها لدمجها بعد تأهيلها وتشذيبها وترشيقها ، في قلب هذا المخطط الجديد ، ويتم وضع معايير موحدة تراعي التقنيات العصرية الحديثة ، وعندها يمكن أن نتوقع أننا سننجح في موازنات السنوات القادمة بالتقدم درجة درجة حتى تكون لنا موازنة تعبر فعلا عن خطة نهوض ، وليس فقط عن موازنة تفادي وقوع الأسوأ .
النهار