القطاع الصحي الذي كان حتى العام 2019 مفخرة للبنان وقبلة البلدان العربية المحيطة واجه، مع حرب “الإسناد الخنفشارية”، تحديات جبارة استنزفت طاقاته وجعلته منهكاً على شفير الانهيار. وأتت الحرب بعد سلسلة من الضربات المتتالية التي شلّعت القطاع وأضعفته وإن حاول بجهد التعافي منها في كل مرة. فماذا نعرف اليوم عن القطاع الصحي وما الذي تغيّر فيه؟ ماذا عنه قبل 23 أيلول 2024 وما آل إليه حتى اللحظة؟
مستشفيات، مراكز رعاية صحية، صيدليات، أطباء وممرضون يشكلون الركيزة الأساسية للقطاع الصحي الذي يتصدّر اليوم المشهد المأسوي العام في لبنان ويرسم صورة تتأرجح بين الإصرار والإنهاك .
قطاع تمريضي يتألم ويواجه
في نقابة الممرضين والممرضات في لبنان يبلغ عدد المسجلين نحو 21200 ممرض إلا أن العاملين الفعليين في القطاع التمريضي يقارب 10,000 ممرض. وقد شهد القطاع موجة هجرة مع بدء الانهيار الاقتصادي بلغت نحو 3500 ممرض وخسر عدداً كبيراً من أصحاب الكفاءة والخبرة الطويلة المطلوبين جداً في الخارج، وقد انعكس ذلك على الخريجين الجدد الذين يحتاجون إلى التعلم من أصحاب الخبرة الطويلة، كما يحتاجون إلى نوعية رفيعة المستوى من التعليم خسر لبنان قسماً منها مع خسارة الكوادر التعليمية المؤهلة في المعاهد.
تقول نقيبة الممرضين والممرضات عبير الكردي علامة أن عدد الخريجين من كليات ومعاهد التمريض في لبنان يتراوح ما بين 2000 إلى 2500 ممرض سنوياً لكن للأسف ليسوا جميعهم في النقابة لأسباب مختلفة، منها ما هو مالي، وقد تم العمل على تذليل العقبات المالية والعمل مع نقابة المستشفيات الخاصة ليكون كل الممرضين العاملين فيها منتسبين إلى النقابة.
لكن على الرغم من العدد المبدئي المقبول، يعاني القطاع التمريضي من نقص في أقسام العناية الفائقة وغرف العمليات والعناية الفائقة لحديثي الولادة، حيث يحتاج الممرضون إلى وقت طويل ليكتسبوا الخبرة الكافية التي تؤهلهم لهذا العمل الدقيق. إلى ذلك، ثمة مستشفيات أقفلت بعض الأقسام فيها بسبب الأزمة الاقتصادية ما جعل الممرضين المختصين ينتقلون إلى أقسام أخرى ولا يستفاد من خبراتهم المطلوبة، كما أثرت الأزمة سلباً على الرواتب والتقديمات وبيئة العمل لا سيما في الأرياف، حيث عدد المؤسسات الاستشفائية أقل، ما أحدث موجة نزوح للممرضين نحو المدن للبحث عن مقومات عيش أفضل.
في الطليعة
اليوم تقدّر النقيبة علامة عدد الممرضين الذين لا يتواجدون في عملهم المعتاد بسبب النزوح وخروج المستشفيات من الخدمة بنحو 1500 ممرض، فيما المتواجدون في المناطق الخطرة لا يزيد عددهم عن 600 شخص ما زالوا يؤمّنون عملهم في المستشفيات وينامون داخلها ويعملون في دوامات متتالية، لكن هذه الأعداد تتغير كل يوم. وقد عملت النقابة على تسجيل أسماء غير القادرين على الالتحاق بمستشفياتهم لشبكهم مع مستشفيات أكبر وأكثر أماناً، أو مع مراكز الإيواء ومراكز الرعاية الصحية الأولية. كما تمّ إطلاق نداءات إلى المتقاعدين وطلاب التمريض للتقدم للمساعدة وقد تسجل 660 شخصاً، كما أعرب بعض من هم في الخارج عن استعدادهم للعودة إلى تأمين الدعم المعنوي والعملي للنازحين.
صمود رغم الأزمات
يبلغ عدد المستشفيات في لبنان 125 مستشفى خاصاً عاملاً و33 مستشفى حكومياً حسب النشرات الاحصائية لموقع وزارة الصحة حتى العام 2018. وتتوزع بين مستشفيات جامعية ومركزية كبرى ومستشفيات وسطية وأخرى ريفية صغيرة. وقد شهد القطاع الإستشفائي أخيراً ضمّ المستشفيات المركزية الكبرى لعدد من المستشفيات الصغرى أو المتوسطة المتعثرة إلى شبكاتها، وهو ما جرى مع مستشفى أوتيل ديو والقديس جاورجيوس ومستشفى دار الأمل.
مستشفيات لبنان الخاصة تضم اليوم بحسب النقيب سليمان هارون 8000 سرير وقد تراجع عدد الأسرّة نحو 20 في المئة مع بدء الأزمة العام 2019، واليوم ومع خروج مستشفيات عدة عن العمل لم يعد العدد يتخطى 6000 سرير. نذكر أن منظمة الصحة العالميّة أعلنت عن إغلاق 5 مستشفيات و100 مركز للرعاية الصحيّة في لبنان. أما المستشفيات الحكومية فيبلغ عدد أسرتها نحو 18 في المئة من مجموع عدد الأسرة في المستشفيات الخاصة وقد خرج عدد منها أيضاً من الخدمة. وتشهد مستشفيات لبنان توزعاً عادلاً على كافة المناطق، برأي النقيب، ولا نقص في أعدادها في المناطق الريفية والأطراف بل يتم توزعها وفق عدد السكان، ويشهد جبل لبنان العدد الأكبر من المستشفيات ويليه الشمال فالبقاع وتتساوى بيروت والجنوب والعدد الأقل في محافظة النبطية. ويؤكد النقيب أن هذه المستشفيات قادرة في الأوقات العادية على تأمين الطبابة للمنطقة التي تتواجد فيها لكنها تعاني من نقص في بعض الأقسام مثل غسيل الكلى والعناية الفائقة مع التنفس الاصطناعي. وقد ظهرت هذه النواقص بوضوح مع موجة النزوح إذ بات مرضى غسيل الكلى في الجنوب والبقاع مضطرين للخضوع لجلسات في المناطق التي نزحوا إليها، ما سبب ضغطاً على هذه الأقسام التي كانت تعمل في الأصل بطاقتها القصوى، لكن تمّ استيعاب الأمر عبر زيادة ساعات العمل وعبر توسعة هذه الأقسام في المستشفيات الحكومية.
أثبتت ظروف الحرب وجود نقص حاد في أطباء الطوارئ وفق ما يؤكد النقيب هارون، إذ تحتاج المستشفيات إلى 600 طبيب طوارئ على الأقل فيما لا يتخطى عدد المتوافرين منهم 50 طبيباً. كذلك سببت هجرة الأطباء نقصاً في أعداد أطباء جراحة الشرايين والدماغ كما في أطباء الأشعة والمختبر، ووفق الأعداد المتداولة فثمة 3500 طبيب قد هاجروا لكن أكثر من نصفهم عاد إلى لبنان على مراحل في هجرة عكسية. ووفق نقابتي بيروت وطرابلس يبلغ عدد الأطباء المسجلين حتى العام 2023 حوالى 15,059طبيباً، أي نحو 254 طبيباً لكل 100,000 شخص لكن ليسوا كلهم عاملين فعلياً على الأراضي اللبنانية ومع تفاوت واضح في الاختصاصات.
اليوم، يتخوف هارون من “عجز المستشفيات عن الاستمرار في حال طال أمد الحرب أو في حال تعرضت لاعتداءات مباشرة كما هي الحال في غزة، ويؤكد أن المستشفيات العاملة استطاعت تأمين الأوكسجين والفيول للمولدات ومخزون الأدوية الأساسية، لكن قدرتها على الصمود تمتد لأسابيع لا لأشهر لا سيما أنها في عين العاصفة”. فهل انتهت العاصفة؟ نراهن على الأيام الآتية ليلملم القطاع أشلاءه إذا استطاع.
مراكز رعاية للبنانيين وسواهم
إلى جانب المستشفيات وعلى مساحة لبنان ما يقارب 300 مركز للرعاية الصحية الأولية، العدد الأكبر منها في جبل لبنان والأقل في جبيل وكسروان، تؤمن الخدمات الصحية المتنوعة لا سيما في المناطق المحرومة والتي تكثر فيها أعداد النازحين وتشرف على عدد كبير منها الجمعيات الأهلية غير الربحية. ويبلغ متوسط العدد الشهري للمستفيدين حالياً من مراكز الرعاية حوالى 300 شخص في الأرياف و450 شخصاً في المدن، فيما يتوقع أن تستطيع تلبية الخدمات الصحية لنحو 15000 مستفيد في الأرياف و 30,000 في المدن داخل المراكز وخارجها، بأسعار متدنية جداً نسبة الى أسعار الخدمات الصحية في المستشفيات والعيادات والمختبرات ومراكز التصوير. وبحسب إحصاءات وزارة الصحة فإن نسبة اللبنانيين المستفيدين من خدمات مراكز الرعاية تبلغ 63,8% فيما نسبة السوريين 34,9 في المئة ونسبة الجنسيات الأخرى 1,3 في المئة. واليوم تقوم مراكز الرعاية بدور مهم في تقديم الخدمات الصحية في مراكز الإيواء للنازحين رغم توقف معظمها في المناطق الخطرة.
الصيدليات والمخزون المفقود
معاناة الصيدليات في لبنان اليوم لا تختلف عن معاناة القطاع الصحي فمئات منها أقفلت وعشرات منها تدمرت. ويبلغ العدد التقريبي للصيدليات وفق النقيب جو سلوم نحو 3500 صيدلية موزعة على الأراضي اللبنانية بالتساوي، وقانوناً يحق افتتاح صيدلية في أية منطقة شرط أن تبعد مسافة 300 متر عن الأخرى وهذا ربما ما يفسر وجود تخمة في عدد الصيدليات الأمر الذي ينفيه النقيب الذي يؤكد توزعها بحسب مساحة المنطقة وعدد سكانها .
مع الأزمة المالية هاجر عدد كبير من الصيادلة فيما أقفل 60 مكتباً علمياً بشكل كلي او جزئي ما قلّل عدد الصيادلة العاملين فيها. حالياً هناك آلاف النازحين بين الصيادلة وعائلاتهم وثمة 300 إلى 400 صيدلية تعمل في مناطق غير آمنة ويصعب عليها الحصول على الأدوية من المستودعات. من جهة أخرى فإن مخزون الأدوية في الصيدليات المدمرة أو التي يصعب الوصول إليها يجب أن يحسم من تعداد المخزون العام، لذا وجّه النقيب سلوم أكثر من نداء للمساعدة في استخراج هذا المخزون وجعل استيراد الأدوية من الخارج وتزويد الصيدليات بها أولوية مطلقة، كذلك تأمين مساعدات عينية من الأدوية ليتم توزيعها على مراكز الأيواء ليتمكن القطاع الصيدلي، الذي يشهد ضغطاً متزايداً، من تلبية الاحتياجات الدوائية المتكاثرة في المناطق التي تشهد استقبالاً لأكثر من 1,200,000 نازح. صحيح أن مخزون الأدوية، وفق سلوم، “يكفي حتى 3 إلى 4 أشهر وثمة مساعدات عينية وصلت إلى لبنان، لكن يبقى هناك نقص في بعض أنواع الأدوية وأبرزها أدوية الأمراض المستعصية التي كانت حتى قبل الحرب قليلة أو مقطوعة. من هنا النداءات المتكررة لجعل تأمين الأدوية أولية حتى يستطيع لبنان مواجهة كل التحديات الصحية”. نعود لنسأل، هل سيتوقف النزف مع إعلان لوقف العدوان؟ يأمل سلوم ذلك لكن ليس كلّ ما يتمناه المرء يدركه.
يبقى أن نذكّر أن مئة مركز للرعاية الصحية الأولية أغلقت بالكامل من أصل 207 مراكز في لبنان. وهناك مئة شخص من العاملين الصحيين قضوا في الحرب. ولبنان، مستشفى الشرق أيام زمان، سيحتاج الى وقتٍ طويل ليسترجع قدرته على البقاء.