يومية سياسية مستقلة
بيروت / °13

"لبنان: دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة"

Friday, October 22, 2021 10:21:36 PM

صدر عن المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات كتاب "لبنان: دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة"(٧٣٦ صفحة)، بمشاركة مجموعة من الباحثين، اشراف وتقديم: خالد زيادة. هنا مقدمة الكتاب..

خالد زيــادة (*)

كتب فؤاد أفرام البستاني في مقدمة كتاب لبنان مباحث علمية واجتماعية: "في شهر آب من السنة المارتية 1334، الموافقة للسنة 1918، والحرب العالمية في نهاية كوارثها، والشعب اللبناني على آخر رمق، والدولة العثمانية في ارتعاشة الاحتضار، ظهر هذا الكتاب من المطبعة الأدبية في بيروت، في ألف نسخة فقط... ثم لم تلبث 'الدولة' أن انهارت، فتبددت نسخه حتى تعذّر اقتناؤه... بيد أن الكتاب ظهر 'طُرفة تاريخية لم يوضع مثلها في أيام السلم والراحة والهناء'".

نشرت كتابَ لبنان مباحث علمية واجتماعية لجنة من الأدباء بهمّة متصرف جبل لبنان إسماعيل حقّي، الذي طلب من نُخبة من الكتّاب والباحثين والأدباء إعداد مسح لأحوال لبنان من الناحية الجغرافية والموارد الاقتصادية، ومن ناحية تنوّع أبنائه وتقاليد المجتمع.

قبل ذلك بعامين (1916)، صدر عن دار الإقبال كتاب ولاية بيروت بهمّة الوالي عزمي باشا. يتناول الكتاب: "المشاهدات والمباحث عن طبقات الأمم وطبقات الأرض والجغرافيا، والتاريخ والآثار العتيقة والأحوال الروحية والأخلاقية والاجتماعية، والصحية والدين واللغات والآداب والصنائع النفيسة، والمعارف والزراعة، والتجارة، والطرق، والصنائع". وقد أعّد الكتاب موظفان مرموقان هما رفيق التميمي ومحمد بهجت.

صدر الكتابان عند منعطف تاريخي كبير؛ فقد خرجت الإدارة العثمانية من البلاد، ودخلها الجيش الفرنسي، وبعد عامين أُعلنت دولة لبنان الكبير في 1 أيلول/سبتمبر 1920.

إن دولة لبنان الكبير هي كيان سياسي تشكلت جغرافيته من متصرفية جبل لبنان التي ضمت أقضية جزين والشوف والمتن وكسروان والبترون والزاوية والكورة، وضُمّت إلى أجزاء ولاية بيروت، التي تشمل مدن بيروت، وطرابلس، وصيدا، وصور. وأضيفت الأقضية الأربعة، وهي: راشيا، المعلقة وحاصبيا وبعلبك، التي كانت تتبع إداريًا لولاية سوريا.

هذه التقسيمات الإدارية السابقة لولادة دولة لبنان الكبير حديثة العهد نسبيًا؛ إذ أُقرّ قانون متصرفية جبل لبنان في عام 1861، بعد حوادث طائفية شهدها جبل لبنان، وفي إثر تدخّل الدول الأوروبية. ونصّ نظام المتصرفية على تولّي الإدارة متصرف مسيحي غير لبناني يساهم في حفظ النظام والأمن العام، ويحصّل الأموال الأميرية. أمّا ولاية بيروت، فأُنشئت في عام 1888- وجاء في حيثيات إعلان بيروت ولاية أنه "نتيجة لازدياد أهمية مدينة بيروت وحساسيتها، وللوقوف في وجه النفوذ الأجنبي والتقليل من شأنه وأسبابه. بالإضافة إلى اتساع ولاية سورية واتخاذ ولاتها مدينة دمشق مركزًا لهم، الأمر الذي يجعل بيروت دون أهميتها".

الوقع أن بيروت كانت قد نمت مع بدايات القرن التاسع عشر، خصوصًا في فترة الحكم المصري (1831-1840)، حيث أصبحت مرفأً مهمًّا يربط الداخل العربي بالتجارة الأوروبية. وتوسعت المدينة بمرافقها ومنشآتها، وأولتها الإدارة العثمانية اهتمامًا مميزًا، فبنت فيها السرايا والساحات والحدائق، وأذِنت للإرساليات بافتتاح الجامعات والمدارس، فكانت الكلية البروتستانتية السورية في عام 1866 التي ستصبح الجامعة الأميركية في بيروت. كما أقام الآباء اليسوعيون جامعة القديس يوسف في عام 1875. وشهدت بيروت نهضة الصحافة والطباعة، فضلًا عن هجرة سكان من مناطق لبنانية وسورية بسبب فرص العمل التي عرفتها، وبسبب توسع أعمال التجارة، حتى بلغ عدد سكانها في نهاية القرن التاسع عشر مئة وخمسين ألف نسمة بعد أن كانوا في بدايته لا يتجاوزون الخمسة الآف. وإذا كانت مدينة بعبدا المركز الإداري للمتصرفية، فإن بيروت كانت العاصمة التجارية والتربوية، والمرفأ الذي يصل المتصرفية والداخل السوري.

عرفت أقضية المتصرفية افتتاح المدارس الإرسالية والأهلية والرسمية (المعارف). وكانت التنظيمات العثمانية قد أقرّت أنظمة البلديات والشرطة والمجالس التمثيلية، على مستوى كلٍّ من القضاء واللواء والولاية، علاوة على إنشاء الجمعيات الأدبية والخيرية والتربوية.

على هذا النحو، عرفت ولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان نهضة متعددة الأوجه، خصوصًا الوجه الثقافي والأدبي، ولضيق مجالات العمل والتعبير، انتقل عدد من الصحافيين والكتّاب من خريجي المدارس والمعاهد، إلى مصر، حيث ساهموا في الحياة الثقافية والإعلامية عبر تأسيسهم الجرائد والمجلات والمطابع، التي ما زال بعضها يصدر حتى يومنا هذا كالأهرام التي تأسست عام 1875 والهلال التي تأسست عام1892، فضلًا عن مساهمة كثيرين في نهضة المسرح، إضافة إلى أولئك الذين انتقلوا إلى مصر ليؤسسوا المصالح التجارية والصناعية.

كان من الطبيعي عند إعلان دولة لبنان الكبير، أن تكون بيروت عاصمة للدولة التي تكوّنت من ضم المتصرفية إلى أجزاء من ولاية بيروت؛ فإعلان دولة لبنان الكبير، بحدوده الجغرافية، هو أيضًا نتيجة تسويات تدخلت فيها قوى أوروبية وأطراف محلية، في الأوضاع التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء، ومنهم فرنسا وبريطانيا اللتان تقاسمتا النفوذ في منطقة المشرق العربي. وقد عرفت تلك الفترة اتجاهات سياسية مختلفة، من الوعود بإقامة مملكة عربية تضم الحجاز وبلاد الشام، إلى الطموح لإقامة سوريا الكبرى التي تضم لبنان وفلسطين وشرق الأردن، إلى النزوع إلى إقامة كيانات وفقًا لإرادة الدول المنتصرة في الحرب، فخضع لبنان وسوريا للانتداب الفرنسي، وخضع العراق للانتداب البريطاني.

كان لفرنسا الدور الكبير في رسم ملامح الدولة اللبنانية التي أعلنت ولادتها في 20 أيلول/سبتمبر 1920، الأمر الذي أثار اعتراضات من أطراف ومناطق ضُمّت إلى الدولة الوليدة. إلّا أن هذه الاعتراضات سرعان ما تلاشت بعد إعلان المعاهدة السورية - الفرنسية في عام 1936. وكان لبنان قد قطع خلال عقد ونصف عقد من الزمن شوطًا في تكريس مؤسساته الدستورية والإدارية ونظامه التعددي.

وكان الإنجاز الأول والأبرز هو صوغ الدستور في عام 1926، وإقراره من هيئة نيابية منتخبة. وهو الدستور الذي جاء بعد دستور الحكومة العربية في دمشق عام 1920 والذي لم يتسن للمؤتمر السوري إقراره بسبب انهيار حكومة الملك فيصل بعد معركة ميسلون والاحتلال الفرنسي، والدستور المصري عام 1923 الذي جاء في أعقاب ثورة 1919. أعلن الدستور اللبناني ولادة أول جمهورية في المحيط العربي. ومثّل توزيعُ الرئاسات وتخصيص التمثيل النيابي بالطوائف الدينية حالة فريدة أيضًا في محيطه، وهو الأمر المستمد من نظام المتصرفية الذي اعتنى بتوزان التمثيل بين المكونات الطائفية تحت رعاية الدولة العثمانية، وهو ما كرسه الفرنسيون في فترة الانتداب (1920-1943). وكان على لبنان المستقل في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943 أن يدير بنفسه هذا التوازن الدقيق، وهذا ما حرص عليه بيان حكومة الاستقلال الأولى الذي تضمن صيغة التوافق، أو ما عُرف باسم "الميثاق الوطني" الذي نص على حياد لبنان إزاء الاتجاهات السياسية، فلا يطلب طرف الانضمام إلى سوريا، ولا يطلب آخر حماية أجنبية. وبغضّ النظر عن الصيغ الرسمية والتوافقات السياسية، فإن الجمهورية اللبنانية مثّلت واقعًا تعدديًا على المستوى الديني، وتنوعًا ثقافيًا وفكريًا بين التيارات المختلفة التي وجدت مساحة واسعة للتعبير عن آرائها. وكرّس لبنان في إثر نيله الاستقلال دوره نقطةَ اتصال ولقاء بين الشرق والغرب، لا على مستوى التجارة الدولية التي يسّرها مرفأ بيروت المزدهر فحسب، بل أيضًا على المستوى الثقافي، فضلًا عن كونه بلد التعايش الديني.

إن الازدهار الذي عرفه لبنان، منذ أن أصبحت بيروت مرفأً رئيسيًا على الساحل الشرقي للمتوسط، ظهرت آثاره في النمو الذي شهدته المرافق الخدماتية والتعليمية والاقتصادية. وخلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين أصبح لبنان بلدًا سياحيًا من الطراز الأول بفضل تقدم الخدمات الفندقية وبفضل طبيعته الجغرافية المميزة. وصار مقصد الاشقاء العرب من مصر وسوريا والعراق ثم من الكويت والعربية السعودية. ترافق ذلك مع اتساع الخدمات المصرفية والخدمات الصحية التي تقدمها مستشفيات ذات المعايير العالمية، فضلاً عن جامعاته التي أصبحت بدورها قبلة الطلبة العرب.

لعل الدور البارز الذي لعبه لبنان في العقدين المذكورين واستمر في لعبه هو الدور الثقافي، ويعود ذلك إلى ما عرفه لبنان من نهضة تربوية وثقافية في القرن التاسع عشر، حين ازدهرت المطابع وظهرت الصحف، فعرف لبنان دور النشر التي أعادت طبع التراث العربي، واستمر النشر اللبناني في النمو فعرف ازدهارًا بعد نيله الاستقلال، وهي الفترة التي تأسست فيها الجمعيات الأدبية والثقافية الأهلية.

وأصبحت بيروت مقصد الأدباء والشعراء والكتّاب العرب، الذين ينشرون أعمالهم في تلك العاصمة التي اضطلعت بالتعريف بالاتجاهات الأدبية والفكرية الحديثة، كما أخذت على عاتقها التعريف بالآداب الأجنبية من خلال حركة الترجمة النشطة.

وأصبحت صحافة لبنان نافذة العرب بسبب الحرية في التعبير عن الاتجاهات السياسية والفكرية، مستفيدة من آخر التطورات في عالم الطباعة.

شهد لبنان بعد اضطرابات صيف عام 1958، التي وقعت وسط أحداث عربية مشهودة، من الوحدة المصرية- السورية في شباط/ فبراير، إلى الثورة على الملكية في العراق في تموز/ يوليو، من العام نفسه، نهوضًا في شتى المجالات بفضل تحديث مؤسساته الحكومية والمدنية، في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964)، وذلك من خلال سن القوانين والتشريعات التي هدفت إلى تحديث نظامه السياسي والأجهزة الإدارية. فأنجزت حكومات ذلك العهد العديد من المشاريع التي تناولت التعليم والمستشفيات والكهرباء والطرقات والمرافئ، فضلاً عن إنشاء المجالس مثل: مجلس تنفيذ المشاريع الانشائية والمجلس الوطني للبحوث العلمية والمجلس الوطني للسياحة، ومجلس الخدمة المدنية، ومصرف لبنان والتفتيش المركزي والضمان الاجتماعي.

بيد أن حرب حزيران/يونيو 1967، أرخت بظلالها على لبنان نتيجة التبدلات السياسية التي طرأت على محيطه، بما في ذلك انتقال القيادة الفلسطينية إلى بيروت، ما أدّى إلى اختلال التوازن الداخلي الذي أدخل لبنان في حرب على امتداد سنوات (1975-1989)، لم يفقد خلالها ميزاته، على الرغم من المعارك والضحايا والتهجير وتدمير المرافق؛ إذ قاوم المجتمع اللبناني الحرب وآثارها، فاستمرت المطابع في إنتاج الكتب، واستمرت الجامعات في استقبال الطلاب، ولم تقفل المصارف ولا المستشفيات ولا الفنادق. ثم انتهت الحرب برعاية عربية، فعقد النواب اللبنانيون اجتماعًا في الطائف في الملكة العربية السعودية، أثمر وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب، والتي أصبحت دستور لبنان.

وسرعان ما بدأت ورشة الاعمار، استعاد لبنان خلال تسعينيات القرن العشرين عافيته، إلّا أنه لم ينجُ من الاعتداءات الإسرائيلية والتجاذبات والضغوط السياسية العربية التي تحيط به، ولم يحظ بإدارة تضع مصالحه في رأس الأولويات، فتفاقمت الهجرة واستفحل الدَّين العام. وكان لبنان ينتقل من أزمة سياسية إلى أخرى.

أُعّد هذا الكتاب ليكون تعريفًا ومسحًا شاملاً لأهم القطاعات والمجالات التي تشمل التاريخ والجغرافيا والسكان والاقتصاد والتربية، والسياحة، والثقافة، والسياسة. وقد ساهم في الدراسات التي يتضمنها الكتاب أساتذة جامعيون متخصصون وخبراء وكتّاب مشهود لهم.

إلا أن الأحداث التي شهدها لبنان ابتداءً من انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019، وما تبعها من اضطراب الخدمات والضائقة الاقتصادية والاجتماعية، ليأتي بعد ذلك الانفجار في مرفأ بيروت الذي دمّر أجزاء من وسط المدينة وأحيائها التراثية، وما تبع ذلك من أزمات صحية ومالية وسياسية، كل ذلك أدّى إلى تأخير إعداد وصدور الكتاب.

نرجو أن يكون هذا الكتاب بمثابة فعل ايمان بلبنان وقدرته على تجاوز الأزمات والضغوط والضائقة التي تجسم على أبنائه، لما مثله هذا البلد ويمثله من فسحة للحرية، ومساحة للتعدد، ونافذة للانفتاح على محيطه العربي والعالم ونموذج للنهوض والتقدم.

المدن

يلفت موقع "اللبنانية" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر الّا عن وجهة نظر كاتبه او مصدره.

 

مقالات مشابهة

بالصور.. زواج التوأم الملتصق الشهير آبي وبريتاني

تكريم الطالبات الفائزات في مسابقة "أوسكار مبدعي العرب وإفريقيا" ومنح ريما يونس درعا تقديرية لإنجازاتها

افتتاح معرض "فصول من يوميات الأزمنة الراهنة" للفنان نديم كرم

حفل تكريمي لأمهات العسكريين الشهداء لمناسبة عيد الأم

"صباحك سيدي (رجاوات)" كتاب جديد لجان توما من اصدار مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية في طرابلس

سماعات لاسلكية جديدة مميزة.. بطارياتها تدوم 47 ساعة تعرفوا اليها

لا “تيك توك” في العراق قريبًا

للمرة الأولى في لبنان : منتدى جامع للجمال والصحّة الجسدية والنفسية Beauty and Wellbeing forum