يومية سياسية مستقلة
بيروت / °19

"17 تشرين" و"4 آب" في الإعلام: تغطية الحدث وصنعه؟

Saturday, July 31, 2021 9:37:11 PM

ترتكزُ هذه المقالة على مقاربة سرديّة- تحليليّة لأحداث انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019، وما نتجَ عنها من تأثيرٍ شعبيّ وسياسيّ خلال التّغطيات الإعلاميّة المتواصلة، وما عَقبَها من أحداث على السّاحة العامّة، وذلك من خلال الإعلام اللبناني لهذه الإنتفاضة الشعبية، ومن خلال الإعلام الإلكتروني، وتحديدًا وسائل التّواصل الإجتماعي. وما يستوقفُنا هو تراجع التّغطية الإعلاميّة لأحداث الإنتفاضة الشّعبيّة في فترة زمنيّة معيّنة، وما تبعَها من تراجعٍ في زخم الحَرَاك الشعبيّ أو "الثورة" لِمَا بيْن الإثنين من اربتاط تفاعليّ. غير أنّ الإعلام الإلكتروني، إلى جانب إعلام المواطن "تربّع ويتربّع على عرش" تغطية الخبر وصناعته مع ومن دون التّغطية الإعلاميّة التلفزيونيّة.
إلى ماذا آلَ النّهجُ الإعلاميّ للقنوات التّلفزيونيّة وشبكات التّواصل الإجتماعي الرقميّة في مُكافحة الفساد منذ انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019؟ وما كان دور التّغطية الإعلاميّة في صناعة الحَدَث؟

مُنذُ تسعينيّات القرن الماضي، وقبل ذلك حتّى، يُواجه اللّبنانيّون جَوْرًا جرّاءَ انعدامِ المُساواة فيما بينهم بسبب نظام المُحاصصة الطّائفيّة الذي تُمارسُه رموز الحرب اللبنانيّة. شكّلَت انتفاضةُ 17 تشرين الأوّل 2019 مُناسبةً لألوف اللبنانيّين للتعّبير عن نقمتهم ضدّ نظامٍ طائفيّ إقطاعيّ، ولنَبْذِ كلّ أشكالِ الفساد المُمتَهَن من قِبَل السّلطة السياسيّة في لبنان. ألوفُ اللبنانيّين أطلقوا خلال التّغطياتِ الإعلاميّة لأحداثِ الإنتفاضة وعبرَ القنوات التلفزيونيّة المحليّة والإقليميّة والعالميّة صَرَخاتِ غضبٍ وألَمٍ جرّاءَ انعدامِ الظّروفِ الحياتيّة الكريمة: فقر، بطالة، غياب الأمن والعدالة الإجتماعيَّيْن، نهبُ المال العام، التّلاعب بسعر صرف الدّولار، إنخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة، قضم المساحات الخضراء، سمسَرات وصفقات وتنازلات مشبوهة، وسواها من أسباب الفسَاد والإنحراف الإداري في الدولة اللبنانيّة. أضف إلى كلّ ذلك، انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 الذي عرّى الطّبقة السياسيّة ونزَعَ عنها ما تبقّى من "أوراق التّين"، والذي ضاعَفَ الأزمة السياسيّة والاقتصاديّة وخَلَطَ أوراقًا وبعثَرَ أخرى. كلّ هذه الأزمات كانت تتماهى مع جائحة وباء الكورونا، الذي ألقى بثقله على كوكب الأرض. وفي خضمّ كلّ ذلك، كان جزءٌ من الإعلامِ اللبنانيّ يُساندُ الشّعبَ الذي كَسَر حواجزَ الخوف والتردّد بعدَ عُقودٍ من الزّمن منتفضًا على مَن أطاح بجنى عمره ومستقبل أبنائه، فيما الجزءُ الآخر وقف في الجانبِ الآخر مصوّبًا سهامَهُ على مَن يقفُ وراءَ غليان الشّارع، متّهمًا الحَرَاك بالعَمَالة. ولكن، في جميع الأحوال، المؤامرة الخارجيّة ضدّ لبنان حاضرة وبقوّة، غير أنّ المؤامرة الأكبر تبقى داخليّة ومتمثّلة بأسباب الفساد وما آل إليه.

تأرجحٌ بين المهنيّة والتحيّز والإبتكار
شكّلت القنوات الإعلاميّة اللبنانيّة LBCI, MTV, Al Jadeed، خلال الأشهر الأولى لانتفاضة 17 تشرين، هيئة إعلاميّة لدعم مطالب الشّعب اللبناني من مُختلِف الإنتماءات الدينيّة والطائفيّة والمناطقيّة الذي أطلقَ استغاثاتٍ شتّى مباشرةً عبر هواءٍ مفتوحٍ حتّى ساعاتٍ متأخّرة من اللّيل، وصُراخاتٍ ناقمة ضدّ طبقةٍ سياسيّة إقطاعيّة حقّقت ثرواتٍ "فاضحة" باختلاس الأموال العامّة. تحوّل مُراسلو القنوات الثلاث إلى "رسلٍ" يدعمون أو يحمون المتظاهرين من الإعتقالات التعسفيّة والعنفيّة. وقد اشتبكَ عددٌ من المُراسلين في كثيرٍ من الأحيان مع قوّات الأمن إمّا لحماية المتظاهرين وإمّا بسبب تغطية اعتداءات القوى الأمنيّة ضدّ المتظاهرين. إضافةً إلى ذلك، شكّلت البرامجُ التلفزيونيّة الحواريّة وشبكاتُ التّواصلِ الإجتماعي منصّاتٍ تعبيريّة حرّة لِمَن هوجموا من قِبَل شرطة مجلس النوّاب ومناصري الأحزاب وسِواهم، ما دَفَعَ القوى الأمنيّة في بعضِ الأحيان إلى توخّي الحذر من التّصادم مع المُراسلين وحتّى توقيف المُتظاهرين أمام الكاميرات. وكذلك شكّلت افتتاحيّات النّشرات الإخباريّة للقنوات المذكورة وسيلةً لإبقاء الإنتفاضة بجهوزيّة تامّة إلى جانب التّغطية المباشرة المتواصلة لساعات متأخّرة من اللّيل، وذلك من خلال عباراتٍ تحملُ ألقابًا ونعوتًا وانتقادات لبعض السياسيّين، تحرّكُ مشاعرَ المتلقّين، ويَعلَق بعضُها في لاوعيِهم، ومن خلال مُساندة قضايا النّاس واستضافة عددٍ من الحالات الإنسانيّة في برامج دَمَجت السياسة بالمُجتمع، فصنعت بذلك حدثًا بل قضيّةً، المُتّهَمُ الأول فيها هو "الطّغمة" السياسيّة والمدّعي هو الشّعب.
توازيًا، وفي السّياق نفسه، تغاضت بعضُ إدارات القنوات التلفزيونية عن المبادئ الأخلاقيّة التي تحكم سلوكَ العَمَلِ الإعلاميّ، أمامَ بعضِ الأحداث الإجتماعيّة والسياسيّة والمسلكيّات الخُلُقيّة لبعض المواطنين تجاه بعض الإعلامييّن. فعلى سبيل المثال، شهدنا في المرحلة الأولى من الإحتجاجات الشعبية على إطلاق العَنَان للشّتائم ضدّ سياسيّين بالأسماء مباشرة على الهَواء، وشهدنا على شجاراتٍ بين مناصري أحزابٍ ومُراسلين على خلفيّات أسلوبِ التّغطية الإعلامية المتحيّز لفريقٍ دون آخر. ولكن لا ننسى أنّ الإعلام اللبناني سانَدَ بطريقة أو بأخرى، خلال هذه المرحلة ولا يزال "إعلام المواطن" من خلال نشره على مواقع التّواصل الإجتماعيّ فيديوهات مُسجّلة من قِبَل بعض النّاشطين والثوّار تُظهرُ ملاحقَتَهم لوزراء ونوّاب ورؤساء أحزاب داخلَ مقاهٍ ومطاعم وأندية وما شاكلها. وبذلك، شكّل ويشكّلُ المواطنون مصدرًا معلوماتيًّا للإعلاميّين، فتكون العلاقة بين المواطنين والمُراسلين علاقة تفاعليّة مُنتجة في كثير من الأحيان. يشرحُ ذلك البروفسور الفرنسي في العُلوم السياسيّة Eric Neuveu: "لقد دمَجَ الصّحافيّون كمهارة أساسيّة في عملهم "الموهبة" لجذب الإنتباه والإغراء، واستباق توقّعات الجمهور"، وبذلك يجعلون المواطن ينخرط في رُزنامةِ وتوجّهِ الوسيلة الإعلاميّة.

الواقع الإجتماعيّ
في ظلّ هذه الحَمَاسة الإعلاميّة من خلال التّغطية الحثيثة لأحداث الانتفاضة، نُلاحظُ ممّا سَبَق أنّ مُعظمَ المُراسلين انزلقوا إلى ممارسات تتعارضُ وأخلاقيّات المهنة الإعلاميّة كالدقّة والمصداقيّة والحياد والموضوعيّة ومبدأ عدم التّميير والتّوازن. نذكر على سبيل المثال ما جاء في دراسة للدّكتور حسن المجمر على موقع شبكة الجزيرة الإعلاميّة بعنوان: "أخلاقيات الإعلام والمعايير التحريرية وحقوق الإنسان في تغطية الأزمات": [...] المحصلة المطلوبة هي تحقّق الصالح العام، الذي لن يحصل إذا انعدمت الحرية اللازمة والكافية لاحترام وتطبيق هذه المبادئ الأخلاقيّة من قِبل الصحافيين والقيادات الإعلامية في المؤسسة مع إتاحة حقّ النقد والرد والتصحيح، وعلى الرغم من تباين تعريف ماهية الصالح العام من بلد إلى آخر، فإن الجمهور وبمختلف فئاته يعرفون أن الصالح العام يتمثل في اهتمام الإعلام بالمعلومات والقضايا التي تشغلهم، وتؤثر على حياتهم اليومية [...]. وفي السّياق نفسه، يعتبرُ الأستاذ الجامعيّ والصحافيّ ناجي القزيلي أنّ هناك "نقصًا في الموضوعيّة إذ إنّ معظم الصّحافيّين ينطلقون إمّا من زاوية سياسيّة وإمّا من زاوية مناطقيّة متحيّزة وهذا ما ينعكس على عمليّة تغطية الحدث [...]. ناهيك أنّ معظمَ المؤسّسات الإعلاميّة في لبنان مملوكة من أحزاب سياسيّة هدفها التّرويج لأفكارها ومعتقداتها".
يُمكنُ اعتبارُ الإعلامِ إذًا وسيلةً "لابتكار" الواقع الإجتماعيّ من خلال تغطيته ومقاربته للأحداث والصّراعات بين مختلف الأقطاب المتنافرة، بل من خلال صناعة الصّورة والصّوت والكلمة في قالَبٍ أحيانًا "إيديولوجيّ" مُشرّع على "قابليّات" لا حصرَ لها. وفي ذلك، يقول المفكّر الفرنسيّ Eric Macé على سبيل المثال: "لا تعكس "وساطة" التلفزيون الجماهيري العالم "كما هو" ولا إيديولوجية المجموعات الاجتماعية المهيمنة، بل تعكس التناقضات والتنازلات الناتجة عن صراعات الأقطاب التي تتعارض في ما بينها على السّاحة العامّة بهدف القوة والهيمنة". وهذا ما يجري في عالمِنا العربيّ وتحديدًا في لبنان، على حدّ تعبير الصّحافيّ والكاتب جهاد الزّين، في مقالة نُشرت في جريدة النّهار، بتاريخ 10-1-2012، بعنوان: "الإعلام التّلفزيوني كعقربٍ ثوريّ سام": "[...] نحن في بيروت مروّجو نقاش ولم نعُدْ صانعي نقاش كما كانت الصّحافة اللبنانيّة ذات يوم [...].
معايير اتّصال جديدة
باختصار، شكّلت التّغطية الإخباريّة في الجزء الأوّل لانتفاضة اللّبنانيّين تأثيرًا على الإتّجاهات والقِيم المجتمعيّة والأولويّات السياسيّة والتي نشأت بفضلِ الأساليب المُبتكَرَة أحيانًا في تغطية الأحداث، من قِبَل إدارات القنوات والمُراسلين، وشكّلت بالتّالي صناعةً للأحداث والأفكار وكوّنت رؤىً متشعّبة لدى الجماهير.
ولكن ما هو سبب تراجع التّغطية الإعلاميّة في فترة زمنيّة معيّنة للحَراك المدنيّ المُنتفض، علمًا أنّ هناك فئة من الشعب لم توقف تحرّكاتِها الغاضبة في الشّارع؟ هل لارتباط بعض القنوات اللّبنانيّة بمصالح خاصّة مع هذه السّلطة؟ أم أنّ هذه القنوات تتعرّض للضّغط وتُمنع من تغطية المظاهرات النّاقمة؟
كيف ساهمت في المقابل تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات والمنصّات الرقميّة في ثورة مكافحة الفساد؟
أنتجت قبل كلّ شيء انتفاضة اللّبنانيّين معايير اتّصال جديدة وجوانب اجتماعيّة وسياسيّة لم تكن موجودة سابقًا. لم يعدْ قادة الأحزاب السياسيّة والزّعماء الإقطاعيّون هم وحدهم من يديرون الشّؤون السياسيّة والإجتماعيّة للبلد. أثبت الحراك الإجتماعيّ والسياسيّ بفضل الإعلام الرقميّ وجوده وفرضَ نفسه إلى حدّ ما كشريك في الحياة السياسيّة، (بالرّغم من أنّ "الثورة" لم تفرز لغاية هذه السّاعة قياداتٍ لمرحلة سياسيّة مستقبليّة) وذلك عبر عدّة وسائل: ملاحقة صفقات الفساد ونشرها، مُساهمة إختصاصيّين في المجالات السياسيّة والماليّة وسواها بمقالات ودراسات توعويّة أو برسائل مصوّرة على مواقع التواصل الإجتماعي، ويجب أن يؤخذ في الإعتبار أنّه عندما كان يتوقّف البث المباشر عبر القنوات التلفزيونيّة، كان يتولّى المتظاهرون أنفسُهم مسؤوليّة التّغطية عبر التقنيّات والمواقع الإلكترونيّة والتّطبيقات المتعلّقة بوسائل التّواصل الإجتماعي التي باتت منبرًا حرًّا لعرض التّظاهرات وتغطيتها من "الفيسبوك" أو من خلال تعليقات الإعلاميين والنّاشطين على "تويتر" ونشر الأخبار السّريعة للمجموعات المختلفة والمنتشرة على كافّة الأراضي اللبنانيّة حيث بات "الواتساب" الرّابط الفعليّ بينها.

ختامًا، إكتست تغطيةُ أحداث انتفاضة مُكافحة الفَسَاد أهميّة بالغة في توجيه وعي الأفراد بالتطوّرات والتحولات التي شهدتها السّاحة اللّبنانيّة منذ 19 تشرين 2019، لحدّ أنّها صنعت حَدَثًا تاريخيًّا يُمكن عنونتُه: "الإعلام والشّعب في وجه سلطة الفسَاد"، ولكن ما لبث أن خبا وهج هذا الحدث الذي صنعه الإعلام اللبنانيّ بمعيّة الشّعب. إذًا، هل الإعلاميّ أو الصّحافي اللّبنانيّ قادرٌ دائمًا على صناعة الحدث؟ يُجيبُ الدّكتور ناجي القزيلي: "لا، لأنّه يصطدمُ بجدارٍ من الرّفض من قِبَل المؤسّسة التي ينتمي إليها، والتي يحكُمُها عدد من القيود السياسيّة وسواها"، ومن هنا صناعة الحدث أصعب بكثير من تغطيته.

المدن

يلفت موقع "اللبنانية" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر الّا عن وجهة نظر كاتبه او مصدره.

 

مقالات مشابهة

اول دولة في العالم تبدأ بتغيير لون الاسفلت للازرق

افتتاح منتدى Beauty and Wellbeing Forum 2024 مساحة جمال وإبداع وفرصة لحياة افضل لكل اللبنانيين

تصنيف جديد للدول من حيث حجم الأسرة.. أي مرتبة احتلّ لبنان؟

وداعاً "كابتن ماجد"

إيناس الجرمقاني وباسم مغنية وكارول عبود يطلقون مسابقة "IAAF AWARDS" في ثانوية الشويفات الرسمية

تكريم التّميّز في الضّيافة وفنون الطّهي خلال الدّورة الثّامنة والعشرين لهوريكا لبنان

بعد طعنه… مطران سيدني للمهاجم: أنت إبني

ثوران بركان في إندونيسيا… وتحذير من تسونامي!