يومية سياسية مستقلة
بيروت / °19

بين حِلف الأقليّات وحِلف المواطنة.. الفاتيكان بوصلة ولبنان نموذج!

Tuesday, January 19, 2021 12:23:02 PM

كتب د. زياد الصائغ الخبير في السياسات العامة في جريدة "النهار"

الجيوبوليتيك الإقليمي – الدّولي في حالة إعادة تشكّلٍ بنيويّة. المعطى السياسيّ – العسكريّ في هذه الحالة جزءٌ لكنّه غير مؤسِّس. ما نحن بصدده، على ما يبدو في الإقليم، ومِن ضمن مسار السياسات العامة التي حملتها وثيقة الأخوّة الإنسانيّة (4/2/2019)، ووثيقة مكّة (30/5/2019)، وميثاق حِلف الفضول (11/12/2019)، وإعلان مراكش (27/1/2016)، ومقاربة السيّد السيستاني مرجعيّة النجَف عن موجبات قيام الدولة المدنيّة، ما نحن بصدده هو انتفاضة عميقة على خيار حِلف الأقليّات لصالح حِلف المواطنة.

الإنتفاضة هنا حضاريّةٌ بامتياز، وتُنهي تدريجيّاً أيديولوجيّات التقاطع الموضوعيّ بين العُنصريّة والديكتاتوريّة المُتلبّسين زوراً تديّناً من ناحية وعلمانيّةً إلحاديّة من ناحية أُخرى، وبين الإرهاب والتطرّف المنتحلَين تزويراً الأديان من ناحية والتنقويّة الإنتقائيّة من ناحيةٍ أُخرى. أيديولوجيّات التقاطع الموضوعي هذه تتصدَّع. في هذا حركة جدليّة تاريخيّة. قد لا تتبدّى نتائجها سريعاً، لكنّ بناءَها التراكميّ سيُثبِت صلابة التغيير المقبِل علينا في ما يُعنى بتوحّد المنصّات الدينيّة، ليس على سُلّم قِيَميّ فحَسب، بل على توجّهاتٍ جيو – سياسيّة في بِناء السلام العالميّ. لن تكون الترجمة العملانيّة لهذه التوجّهات الجيو – سياسيّة سهلةً على الإطلاق، لكن ثمّة ما يَعِد بانتفاء مكانة استنفار عصبيّات أكثرويّة أو أقلويّة، بما يعيد إنتاج مشهديّاتٍ صِداميّة، على أنَّ هذا الانتفاء سيفرِض نفسه تدريجيّاً، ولو أنّه سيبقى عُرضةً لانتهاكاتٍ واختراقاتٍ محدودة.

في كلِّ ما سبق، لا بُدَّ من التنبّه إلى أنَّ ما يقوم به الفاتيكان، بديبلوماسيّته الأخلاقيّة ونهجه الحواريّ بين الأديان، يكتسِب أهميّة استراتيجيّة. وللبابا فرنسيس تحديداً برؤيته الحداثويّة الثاقبة، ولاهوت المسيح الكونيّ الذي يحمله، دون تجاهل بعضٍ من جذور لاهوت التحرّر الأصيل غير المؤدلج في امتداداته البيبليّة وتموضعاته السّياقويّة الثقافيّة، لا بُدّ من التنبّه إلى أنَّ ما يقوم به الفاتيكان بقيادة البابا فرنسيس بات يأخذ السِّمة الإنسانويّة للتعاضد، في مواجهة انفلاتٍ أعمى لموجات الهوياتيّة اليمينيّة في الغرب، وتمدّدٍ خبيث لموجاتٍ عبثيّة منها إقصائيّة ومنها انعزاليّة في الشرق. وفي كِلا المواجهتين إسقاطٌ لمسارٍ تَسيَّد في مراحل سابقة إستيلاءً قمعيّاً على روحيّة الوسطيّة ومنطق الاعتدال النّاظمين للعقد القِيَميّ الجامع بين الأديان، كلّ الأديان دون استثناء. وهنا في اللّااستثناء تسقط تفوّقيّة ما اصطُلِح على تسميته بديانات التراث الإبراهيميّ، لصالح سمبيوزٍ دينيّ غير مُعلَن تؤطِّره المواطنة الحاضنة للتنوّع.

قد يعتقد البعض أنَّ السّمبيوز الدينيّ وَهمٌ في ظِل تعقيدات الدُوغماتيّات المكوِّنة لكلّ من الأديان ذات الصِلة، بما يعرقِل خيار التماس الكيانيّ فيما بينها، وفي هذا الاعتقاد كثيرٌ من صوابيّة، إن سلَّمنا جدلاً بأنَّ المُرتجى من السِّمة الإنسانويّة وتمديدها إلغاء الأديان، وهذا ليس ما نحن بصدده أبداً. السّمبيوز الدينيّ قَيد التبلور يحتمِل في بنيته بناءً جديداً للفضاء العام، بمعنى ارتباطه بالخير العام، حيثُ يُعاد إنتاج منظومة المصالِح المشتركة في موازاة القِيَم المشتركة، وهنا تبلُغ الأيديولوجيّات الدينيّة ذات الأنساق السياسيّة المُغلقة حائطاً مسدوداً، بل إنّ عمليّة تنقية الدّين من الطائفيّة والمذهبيّة وتأطُّراتها السياسيّة المشوَّهة تتقدم حينها لإسقاط أنظمة الأبرتايد، ذات التشكّلات المتعدّدة الأنماط.

وبالاستناد إلى عمليّة تنقية الدّين هذه يُصبِح حِلف المواطنة عقداً جامِعاً لمنتديات النضال من أجل كرامة الإنسان والسّلام العالميّ، بما يؤمِّن انتقالاً هادئاً لديناميّات صراع الحضارات والأديان، والتي خَصُبَ الاستثمار فيها في العقود الثلاثة الأخيرة، إلى موئل التلاقح على الخير المشترك. ليست النتائج الإيجابيّة محسومةً في هذا الانتقال، إذ ثمّة من صراعٍ بين استبلشمنت فكري – سياسي من ناحية، وفكري – ديني من ناحية أُخرى، كما صراعٍ ما بين الأوّل نفسه واتّجاهاته المكوِّنة، والثاني نفسه واتّجاهاته المكوِّنة، إذ ليس من البساطة تفكيك منظوماتٍ مفاهيميّة إكتلمت في مشاريع سياسيّة واقتصاديّة – اجتماعيّة، وبَنَت مشروعيّة استقطاب أنصار حولها، حتى إنها استخدمت النُّظُم الأكاديميّة لتنشئة أجيال كاملة حول هذه المنظومات المفاهيميّة. وبالتالي تتجلّى الصعوبة في تحقّق هذا الانتقال واقعيّة دون الانخراط في تأبيد استحالته، ولو أنَّ ميزان القوى ما زال على كثافة من الخلَل.

الفاتيكان، وحلفاء له في الأزهر الشريف، والنّجف الشريف، ومنتدى أبو ظبي الدوليّ لتعزيز السِّلم، يخوضون مواجهةً حضاريّة أخلاقيّة. السياسة فيها تفصيل، إذ إنَّ الانتصار في المواجهة يقتضي تشييداً مفاهيميّاً صلباً لحِلف المواطنة لإنهاء حِلف الأقليّات، ومعه أوهام انتفاخ أيّ أكثريّات مُتجانِسة أو مُركّبة. ليست الكتلة الإنجيليّة الدوليّة بعيدةً عن هذا التوجّه، بل هي في صُلبه. فيما روسيا الأرثوذكسيّة، وخيارها في إعادة إنتاج المسألة الشرقيّة فتحتاج ميتانويا مع شركائها في كلّ العالم، خصوصاً أولئك في المدار الأنطاكي، تُلاقيها تركيا وإيران في أوهام امبراطوريّة مؤسِّسة على اندفاعاتٍ كارثيّة، وهذا يتطلّب مقاربةً تفكيكيّة أُخرى لا يمكن التوسُّع فيها في هذه العُجالة، ولَو أنّها في المنصّة التحليليّة على كثيرٍ من التّشابه.

أين لبنان الرسلة من كلّ هذا، وهو في صميم اهتمامات الفاتيكان دوماً، وخصوصاً في هذه المرحلة الكيانيّة الخطِرة التي يتعرّض فيها شعبه وهويّته لجريمة إبادةٍ إنسانيّة منظَّمة يُعاقِب عليها القانون الدّولي الإنساني، جريمة إبادة إنسانيّة منظَّمة ترتكبها يوميّاً السُلطة الحاكِمة، أين لبنان الرسالة من كلّ هذا؟ السؤال خطيرٌ وعميق، إذ ثمّة من يَنكبّ لإعلان مَوت صيغة لبنان الميثاقيّة، وهذه نموذجيّة في المواطنة الحاضِنة للتنوّع التي ذكرنا لو أحسنت فيها منذ قيامها حوكمة التنوّع. وثمّة من يندفع في إشهار نزاعاتٍ انفصاليّة فيه. وثمّة من اختار تدميره كُرمى لارتباطاته بأجنداتٍ لا علاقة للمصلحة الوطنيّة العُليا بها بأيّ صِلة. وثمّة من رهنَ نفسه لأحلام تسلّطيّة سلطويّة يُسوِّقها من باب استعادة حقوقٍ مهدورة لكن كاذِبة. وثمّة من قبِل التمتّرس في تكتيكٍ انفعاليّ أو صمتٍ ترقُّبيّ. وثمّة من ثار على كلّ هذه المندرجات التي أسلَفنا وعليه تقع مسؤوليّة إعادة بناء الشخصيّة اللبنانيّة، وإعادة صياغة الصيغة اللبنانيّة، بما هما نموذجٌ أصيلٌ يحملان جنينيّاً المواطنة الحاضنة للتنوّع. الثّوار معنيّون بمناقشةٍ معمّقة لأيّ لبنان يريدون هويّة ودَوراً، بعدها يأتي موجِب توحيد الرؤية والقيادة والبرنامج دون تأخُّر، فالحركة في الجيوبوليتيك الإقليميّ والدّوليّ تحتاج النموذج اللّبنانيّ في العيش الواحِد، والفاتيكان البوصلة يُدرِك ذلك.

من هنا كان كلامٌ عالي للسقف للبابا فرنسيس ولأمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين فهَل من يسمع؟




يلفت موقع "اللبنانية" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر الّا عن وجهة نظر كاتبه او مصدره.

 

مقالات مشابهة

خاص- هكذا تستهدف إسرائيل قدرات حزب الله

خاص- تغيير الوضع الراهن بين إسرائيل ولبنان: الخيارات الأمريكية

خاص- إيران تستعد للضربة المنتظرة ضد اسرائيل.. تقرير يكشف

خاص- عمليات حزب الله تحولت الى نوعية.. كم عسكري اسرائيلي قتلت؟

خاص- تقارب محتمل بين الإمارات وحزب الله؟

خاص- اقرأوا هذه التفاصيل.. هكذا تستعدّ إسرائيل للحرب مع "الحزب"

خاص- أسلحة أميركية جديدة إلى إسرائيل

خاص- الولايات المتحدة قلقة على لبنان من إسرائيل.. لماذا؟