بقلم حبيب شلوق

من السهل في "عصر ما بعد الطائف" مع كل تسهيلاته، على الذين يستهويهم ركوب القطار، الخنوع مجرد الخنوع ، للوصول.
سهلاً كان الوصول إلى سلطة ما بعد الطائف. سهلاً كان تكديس الأموال. والأسهل تكديس المال العام.
كثر سلـّموا بهذا الخنوع، وكثر استفادوا، وأفادوا الأقربين والمحاسيب و"العشيرة" والبيئة.
في المقابل ثمة قلة تمكنت من الوصول وعرفت كيف تحافظ على إرثها الأبوي والعائلي والضيعوي الذي تحمله عن إقتناع، بأن المال العام ليس مباحاً والثروة الوطنية مقدسة واللقمة غير المغموسة بعرق الجبين لا تقيت. قلة وصلت بنظافة، وقلة خرجت بنظافة.
من هذه القلة وتلك، النائب السابق جورج نجم الذي ودّعه لبنان ومنطقة جزين وأصدقاء وقادرون يوم الخميس 30 نيسان 2020 .
كان تعارفنا جورج وأنا منذ بدايات الدراسة الجامعية، وتوطّدت المعرفة والصداقة لما تسلّمت كعضو منتخب في مجلس فرع كلية الحقوق في الإتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، مسؤولية أمين شؤون المطبوعات التي تُعنى بطباعة كل كتب طلاب الكلية من اختصاصي الحقوق والعلوم السياسية إلى الدراسات العليا في الإختصاصين.
جورج نجم دخل النيابة كما هو وخرج كما كان. فالفقر غنى في نظر الكبار بينما الغنى كبَر في نظر الصغار.
لمجرد أن بلغني خبر وفاة الصديق جورج نجم، حتى استرجعت أعواماً عدة من أمس الشباب، يوم تعارفنا في بداية السبعينات رفاقاً في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية في الصنائع ــ الحمراء، وكان غالباً ما يأتي إلى الكلية يومين في الأسبوع قادماً من مسقطه عين المير ،القرية الوادعة في قضاء جزين، نظراً إلى بعد المسافة وصعوبة التنقل وتكلفته، ويحضر كل ساعات المحاضرات، وكنا نتبادل الحديث بين المحاضرة والأخرى ثم بعد انتهاء الدوام وفي ساعات الشغور التي لا يلحظها البرنامج. وقبل الجامعة وبعدها كان يمارس عملاً إذاعياً في إذاعة لبنان "المغرّدة" الوحيدة في أيام العز قبل "كورونا حرب السنتين" وما تلاها.
جورج نجم المحامي الهادئ، الرصين، الطيب، القروي المزارع، المحب للجميع، والمتمني الخير لكل العالم، حملته أخلاقه الدمثة إلى مجلس النواب من خلال انضوائه في "لائحة الوفاء للمقاومة"ونجاحه في انتخابات 2000 وهي الإنتخابات الأولى غداة الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان وتحديداً من الجنوب ومن ضمنه جزين ومنطقتها،وفاز في لوائح "المحدلة" ممثلاً لقضاء جزين في دائرة الجنوب الثانية التي ضمت آنذاك حاصبيا ومرجعيون وجزين.
اتصال تهنئة به غداة انتخابه بعد أكثر من 12 عاماً من الإبتعاد، فوجدته لم يتغيّر بل لم يتشاوف ولم ينسَ أصدقاءه. وهو أصرعلى إطالة المكالمة، حتى إذا قررنا إقفال الخط حرص على أن يؤكد أنه سيتصل بي فور نزوله إلى بيروت وبدء عمله التشريعي.
وبعد فترة، كان لنا لقاء في مطعم ومقهى "بلاس دو ليتوال" (( place de l’étoile في ساحة النجمة، وطال اللقاء لنحو ساعتين وتخلله غداء، والحديث الأوسع فيه كان عن الأيام الغابرة.
وتكرر اللقاء وتكرر الحديث الشيـّق، وترسّخت في نفسي صفة "النائب النموذجي"في جورج الذي لم تغره المظاهر ولا المناصب، ولا السيارات والأبنية الفارهة. سيارته هي نفسها لزمن طويل.
كان جورج نجم الطالب الرصين الهادئ الدائم الإبتسامة، القريب من قلوب عارفيه، ابن الضيعة المتواضع والطيب، بل ابن العائلة اللبنانية المتربية على حب الأرض والوطن والتي تجني قوتها بعرق جبينها، العائلة التي تعرف أهمية الإنسان وقدسية المحبة والتواضع والعيش الأخوي المشترك. وبعد سنتين من انتهاء ولايته كنائب، التقينا في مناسبة إجتماعية حزينة وتجدّد الحديث بيننا، ولم أرَ في الصديق جورج تغيّراً. ظل ابن بيئته يتحسس أحاسيس أهله في جزين والجوار ولا يفرّق بين إنسان وإنسان محافظاً على جسور بناها مع كل اللبنانيين إلى أي طائفة ومذهب وحزب انتموا.
رحل جورج نجم رجل الإنفتاح والسياسي المرن وابن العائلة الملتزمة، كما وصفه راعي أبرشية صيدا للموارنة المطران مارون العمار في جنازته في كنيسة القديس نيقولا للروم الكاثوليك في عين المير لعدم وجود كنيسة للموارنة فيها، في حضور راعي ابرشية الروم الكاثوليك المطران إيلي حداد.
جورج نجم النائب، لم يتغيّر. لم تُغنه نيابة ولم يشهره منصب. هو أغنى المنصب وأكسبه رفعة ومكانة.
يكفيه ويكفي عائلته وزوجته ونجليه المحاميين وابنته ومحبيه فخراً أنه عاش متواضعاً ودخل النيابة فقيراً وخرج فقيراً.